شاب من العصر الذهبي:
بداية حديثنا هنا عن شاب أنعم الله عليه بالقوة والعافية، وكان قد أُعطى جدلًا، فلا يدخل محاورة أو نقاش إلا وتكون حجته واضحة ومقنعة، وقد أنعم الله على هذا الشاب بمعلِّم ومربٍ، هو أعظم أستاذ عرفه التاريخ محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكد بطل قصتنا يسمع بداعي الجهاد إلا ويلبي النداء مسرعًا، حتى لا يفارق التلميذ النجيب أستاذه المربي صلى الله عليه وسلم.
ذاك الشاب، هو الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، الذي خلَّد الله ذكره في القرآن، فهو الذي شهد الله عليه صراحة أنه قد تاب عليه، هذه الحادثة الشهيرة والتي تبدأ حينما دعا النبي صلى الله عليه وسلم صحابته للخروج للجهاد ضد الروم في غزوة تبوك، وكانت هذه الغزوة امتحانًا حقيقيًا للناس فكانت في الحر الشديد، بالإضافة إلى بُعد المسافة بين المدينة وتبوك.
وكان الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه أكثر الصحابة جاهزية لهذه الغزوة، ولكنه ظل يُسوِّف بالتجهيز حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة، تاركًا كعبًا في المدينة ومعه من تخلَّف عن الغزوة ممن حبسهم العذر أو النفاق.
فلم يدري كعب ماذا يقول لأستاذه عندما يرجع من الغزوة، أيسلك طريق الكذب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يرجع ويتوب إلى الله تعالى، خاصة أن كعبًا صاحب جدل ويعرف كيف ينتصر لكلامه؟
أم يكون من الصادقين مع أنفسهم، الذين ينظرون إلى أنفسهم نظرة كبيرة، فيحترمون ذواتهم، ويعترفون بأخطائهم مهما تكن النتيجة، لأنه يخاف من رب العالمين سبحانه وتعالى؟
فعزم فارسنا على الصدق، عزم على أن يصدق الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما إن رجع مُعلِّمه إلى المدينة وذهب إلى المسجد، إلا وأتاه تلميذه كعب بن مالك، يقول كعب حاكيًا لنا هذا المشهد: (فلما رآني صلى الله عليه وسلم، تبسم تبسم المغضب، وقال: "ألم تكن ابتعت ظهرك"؟ قلت: بلى.
قال: "فما خلفك"؟ قلت: والله لو بين يدي أحد غيرك جلست؛ لخرجت من سخطه علي بعذر، لقد أوتيت جدلًا; ولكن قد علمت يا نبي الله أني أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه، وهو حق; فإني أرجو فيه عقبى الله.
إلى أن قال: والله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذًا ـ أي حالًا ـ مني حين تخلفت عنك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدقكم، قم حتى يقضي الله فيك) فقمت) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/528)].
ثم بعد هذا نزل البلاء على كعب بن مالك رضي الله عنه ورجلين ممن صدقا الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فأوحى الله إلى رسول صلى الله عليه وسلم، ألا يُكلِّم الثلاثة لمدة خمسين ليلة.
ويصبر كعب الصادق على البلاء خمسين ليلة، حتى جاء الفرج من الله تعالى فقال جل وعلا: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117-119].
وانظر إليه أيها الشاب بعد أن تاب الله على كعب بن مالك، تكوَّن لدى كعب مفهوم النجاح في الحياة يقول: (إن الله إنما نجانى بالصدق، وإن من توبتى أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلانى، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيت) [رواه البخاري].
حال شبابنا مع الصدق:
(إنها كذبة بيضاء، هذه تورية وليست كذبة...) جمل يتناولها الشباب بينهم وبين بعضهم هذه الأيام، فتجد أن الشاب من وجهة نظر بعض المراهقين، هو من يجيد فن اللف والدوران، والتورية في الحديث، بل والكذب أحيانًا، فبذلك يستطيع الشاب كما يرونه، أن يحقق أحلامه ويعيش في هذا الزمن الصعب المليء بالمؤامرات.
إن المراهق ما إن يدخل مرحلة المراهقة، وإلا ويكتسب بعض العادات التي تساعده في حياته العملية مع الناس، فهذه العادات إما أن تكون صالحة أو سيئة، ولا يخفى على أحد أن الصدق من أهم القيم التي تغرس في الشاب المسلم معاني الأمانة والاستقامة، وغيرها من المعاني الجيدة، كما أنه يُعين الشاب المسلم على أن ينظر للأمور بعين الحق لا الباطل، يقول ابن القيم رحمه الله عن الصدق:
(هو منزل القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران ... وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين ) [مدارج السالكين، ابن القيم، ص(495)].
أنواع الصدق:
1. الصدق مع الله:
إنه أفضل أنواع الصدق، فبه يكون الشاب مع الله في كل حال، ولقد بيَّن الله عظم هذا الخلق في كتابه فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} ثم قال سبحانه بعد هذه الأوصاف كلها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
({أُولَئِكَ} أي: المتصفون بما ذُكر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية: فأولئك هم {الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} لأنهم تركوا المحظور، وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير، تضمنًا، ولزومًا؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية: أكبر العبادات، ومن قام بها: كان بما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار، الصادقون، المتقون) [تفسير السعدي، (1/83)].
2. الصدق مع الناس:
ألا تتفق معي أيها الشاب، أن الناس يكرهون الإنسان الكذَّاب المخادع، بل أنت إذا قال لك صاحبك شيئًا وصدقته بالفعل، ثم تبيَّن لك بعد ذلك أنه يكذب عليك، ماذا سيكون شعورك تجاه هذا الشخص؟؟
فالصدق مع الناس، أساس العلاقات الاجتماعية الناجحة، فالمعاملة التي تُبنى على الصدق، تكون ثابتة راسخة تملؤها الثقة، أما إذا كانت غير ذلك فستجد أن هذه العلاقة التي بُنيت على غير الصدق تنهار، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريص على أن يُرشدنا إلى الصدق، فقال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرَّى الصدق؛ حتى يُكتَب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحَّرى الكذب؛ حتى يُكتَب عند الله كذابًا) [رواه مسلم].
3. الصدق مع النفس:
(عندما كان أحمد في الصف الخامس الابتدائي، ضُبط وهو يغش في امتحان الدراسات الاجتماعية، وقد قطع عهدًا على نفسه ألا يغش مرة أخرى، وبعد عدة سنوات عندما أصبح في الصف الأول الثانوي، تعرَّض لاختبار شديد بشأن التزامه بهذا العهد، فقد كان نجم فريق الكرة الطائرة في مدرسته، وكان يلعب وفريقه ضد فريق من مدرسة أخرى، وأثناء تلك المبارة المشتعلة، تصدى أحمد لإحدى كرات الفريق الآخر، ولكنه شعر أن ذراعه قد لمس الشبكة [وهذا شيء ممنوع في الكرة الطائرة]، ولم يره أحد، ولم يعلم بهذا الأمر سوى أحمد، وقد تردد لوهلة قبل أن يخبر الحكم، لكنه صدق وأخبر الحكم بالصدق، وحصل الفريق الآخر على النقطة وفاز بالمباراة، ولكن أحمد كان يعلم جيدًا أنه فعل الصواب) [ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث، باميلا إيسبلاند، ص(291)، بتصرف].
فإن نظرتك لنفسك أيها الشاب هي التي تجعلك صادقًا في كل أحوالك، فالشخص الكبير ينظر إلى نفسه على أنها كبيرة، ولذا تجده في جميع أحواله صادقًا حتى وإن فعل شيئًا خاطئًا، ولم يره أحد، يُسارع ويخبر بأنه الخطأ الذي حدث من عنده، فهو لا يرفع شعارات مثل: (طالما أن أحدًا لم يرني إذًا فالأمر على ما يُرام).
ماذا بعد الكلام؟
بالنسبة للآباء:
إن توقعك أيها الوالد أن يخبرك أبناؤك بكل ما يفعلونه خارج البيت ليس هو نفس التوقع عندما تكون أنت مشاركًا إياهم حياتهم بالفعل، فعندما تطرح الأسئلة مثل: أين كنت؟ لماذا تأخرت؟ وعلاقتك مع ابنك في الأصل، لا تقوم على المشاركة والاهتمام به، فلا تظن أن ابنك سيخبرك بالحقيقة، وإن أخبرك فسيكون كلامه مقتضَبًا.
إن وجود علاقة صحيحة وفعَّالة بينك وبين ابنك المراهق، ستساعدك في تعويد ابنك على الصدق، فلتقل له:
(إنني أثق بك في أنك ستقوم بفعل الشيء الصحيح، لذلك ينبغي عليك أن تثق بي عندما أطرح عليك سؤالًا معينًا يتعلق بشيء كنت قد فعلته، وعندما أقوم بذلك فإنني أحب أن أسمع منك إجابة صادقة) [كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان، ص(256)، بتصرف].
بالنسبة للأبناء:
(كن مثالًا يُحتذى به بأن تكون صادقًا مع والديك، ومع إخواتك وأخواتك، وأصدقائك، وجيرانك، ومع ذاتك، وعندما تُزيف الحقيقة ولا تكون صادقًا، اعترف بذلك ثم اعتذر.
عاهد نفسك أن تكون صادقًا، وأخبر شخصًا تثق فيه عن هذا التعهد على أن يكون الصدق صفة من صفاته، وليكن: أحد الوالدين، أحد المدرسين، صديقًا مُقربًا، واطلب مساندته، والجأ لهذا الشخص عندما يصعب عليك أن تكون صادقًا) [ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث، باميلا إيسبلاند، ص(289)، بتصرف].
وأخيرًا:
إن الصدق يجب أن يكون حالة دائمة للشاب المسلم، تَغمُر قلبه ولسانه وجوارحه؛ فيصدق بقلبه مع ربه؛ فتكون أعماله كلها خالصة له سبحانه، ثم يَفيض ذلك الصدق على لسانه ليكون صفة لازمة له؛ فلا ينطق إلا بكل صدق، ثم تصطبغ جوارحه كلها بتلك الفضيلة؛ فتغدو معاملاته كلها مع عباد الله عليها كسوة الصدق، في نُصحهم ومعاملتهم، بحيث يستوى سره وعلانيته، لا يحمل لأحدهم غلًّا ولا غشًّا، ولا حقدًا ولاحسدًا، وكيف يحمل شيئًا من ذلك؟! وقد امتلأ قلبه بالصدق الهادي إلى كل بر، والعاصم من كل شر.
المصادر:
· سير أعلام النبلاء، الذهبي.
· ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث.
· كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان.
· مدارج السالكين، ابن القيم.
· تفسير السعدي.
بداية حديثنا هنا عن شاب أنعم الله عليه بالقوة والعافية، وكان قد أُعطى جدلًا، فلا يدخل محاورة أو نقاش إلا وتكون حجته واضحة ومقنعة، وقد أنعم الله على هذا الشاب بمعلِّم ومربٍ، هو أعظم أستاذ عرفه التاريخ محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكد بطل قصتنا يسمع بداعي الجهاد إلا ويلبي النداء مسرعًا، حتى لا يفارق التلميذ النجيب أستاذه المربي صلى الله عليه وسلم.
ذاك الشاب، هو الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، الذي خلَّد الله ذكره في القرآن، فهو الذي شهد الله عليه صراحة أنه قد تاب عليه، هذه الحادثة الشهيرة والتي تبدأ حينما دعا النبي صلى الله عليه وسلم صحابته للخروج للجهاد ضد الروم في غزوة تبوك، وكانت هذه الغزوة امتحانًا حقيقيًا للناس فكانت في الحر الشديد، بالإضافة إلى بُعد المسافة بين المدينة وتبوك.
وكان الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه أكثر الصحابة جاهزية لهذه الغزوة، ولكنه ظل يُسوِّف بالتجهيز حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة، تاركًا كعبًا في المدينة ومعه من تخلَّف عن الغزوة ممن حبسهم العذر أو النفاق.
فلم يدري كعب ماذا يقول لأستاذه عندما يرجع من الغزوة، أيسلك طريق الكذب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يرجع ويتوب إلى الله تعالى، خاصة أن كعبًا صاحب جدل ويعرف كيف ينتصر لكلامه؟
أم يكون من الصادقين مع أنفسهم، الذين ينظرون إلى أنفسهم نظرة كبيرة، فيحترمون ذواتهم، ويعترفون بأخطائهم مهما تكن النتيجة، لأنه يخاف من رب العالمين سبحانه وتعالى؟
فعزم فارسنا على الصدق، عزم على أن يصدق الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما إن رجع مُعلِّمه إلى المدينة وذهب إلى المسجد، إلا وأتاه تلميذه كعب بن مالك، يقول كعب حاكيًا لنا هذا المشهد: (فلما رآني صلى الله عليه وسلم، تبسم تبسم المغضب، وقال: "ألم تكن ابتعت ظهرك"؟ قلت: بلى.
قال: "فما خلفك"؟ قلت: والله لو بين يدي أحد غيرك جلست؛ لخرجت من سخطه علي بعذر، لقد أوتيت جدلًا; ولكن قد علمت يا نبي الله أني أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه، وهو حق; فإني أرجو فيه عقبى الله.
إلى أن قال: والله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذًا ـ أي حالًا ـ مني حين تخلفت عنك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدقكم، قم حتى يقضي الله فيك) فقمت) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/528)].
ثم بعد هذا نزل البلاء على كعب بن مالك رضي الله عنه ورجلين ممن صدقا الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فأوحى الله إلى رسول صلى الله عليه وسلم، ألا يُكلِّم الثلاثة لمدة خمسين ليلة.
ويصبر كعب الصادق على البلاء خمسين ليلة، حتى جاء الفرج من الله تعالى فقال جل وعلا: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117-119].
وانظر إليه أيها الشاب بعد أن تاب الله على كعب بن مالك، تكوَّن لدى كعب مفهوم النجاح في الحياة يقول: (إن الله إنما نجانى بالصدق، وإن من توبتى أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلانى، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيت) [رواه البخاري].
حال شبابنا مع الصدق:
(إنها كذبة بيضاء، هذه تورية وليست كذبة...) جمل يتناولها الشباب بينهم وبين بعضهم هذه الأيام، فتجد أن الشاب من وجهة نظر بعض المراهقين، هو من يجيد فن اللف والدوران، والتورية في الحديث، بل والكذب أحيانًا، فبذلك يستطيع الشاب كما يرونه، أن يحقق أحلامه ويعيش في هذا الزمن الصعب المليء بالمؤامرات.
إن المراهق ما إن يدخل مرحلة المراهقة، وإلا ويكتسب بعض العادات التي تساعده في حياته العملية مع الناس، فهذه العادات إما أن تكون صالحة أو سيئة، ولا يخفى على أحد أن الصدق من أهم القيم التي تغرس في الشاب المسلم معاني الأمانة والاستقامة، وغيرها من المعاني الجيدة، كما أنه يُعين الشاب المسلم على أن ينظر للأمور بعين الحق لا الباطل، يقول ابن القيم رحمه الله عن الصدق:
(هو منزل القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران ... وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين ) [مدارج السالكين، ابن القيم، ص(495)].
أنواع الصدق:
1. الصدق مع الله:
إنه أفضل أنواع الصدق، فبه يكون الشاب مع الله في كل حال، ولقد بيَّن الله عظم هذا الخلق في كتابه فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} ثم قال سبحانه بعد هذه الأوصاف كلها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
({أُولَئِكَ} أي: المتصفون بما ذُكر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية: فأولئك هم {الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} لأنهم تركوا المحظور، وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير، تضمنًا، ولزومًا؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية: أكبر العبادات، ومن قام بها: كان بما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار، الصادقون، المتقون) [تفسير السعدي، (1/83)].
2. الصدق مع الناس:
ألا تتفق معي أيها الشاب، أن الناس يكرهون الإنسان الكذَّاب المخادع، بل أنت إذا قال لك صاحبك شيئًا وصدقته بالفعل، ثم تبيَّن لك بعد ذلك أنه يكذب عليك، ماذا سيكون شعورك تجاه هذا الشخص؟؟
فالصدق مع الناس، أساس العلاقات الاجتماعية الناجحة، فالمعاملة التي تُبنى على الصدق، تكون ثابتة راسخة تملؤها الثقة، أما إذا كانت غير ذلك فستجد أن هذه العلاقة التي بُنيت على غير الصدق تنهار، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريص على أن يُرشدنا إلى الصدق، فقال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرَّى الصدق؛ حتى يُكتَب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحَّرى الكذب؛ حتى يُكتَب عند الله كذابًا) [رواه مسلم].
3. الصدق مع النفس:
(عندما كان أحمد في الصف الخامس الابتدائي، ضُبط وهو يغش في امتحان الدراسات الاجتماعية، وقد قطع عهدًا على نفسه ألا يغش مرة أخرى، وبعد عدة سنوات عندما أصبح في الصف الأول الثانوي، تعرَّض لاختبار شديد بشأن التزامه بهذا العهد، فقد كان نجم فريق الكرة الطائرة في مدرسته، وكان يلعب وفريقه ضد فريق من مدرسة أخرى، وأثناء تلك المبارة المشتعلة، تصدى أحمد لإحدى كرات الفريق الآخر، ولكنه شعر أن ذراعه قد لمس الشبكة [وهذا شيء ممنوع في الكرة الطائرة]، ولم يره أحد، ولم يعلم بهذا الأمر سوى أحمد، وقد تردد لوهلة قبل أن يخبر الحكم، لكنه صدق وأخبر الحكم بالصدق، وحصل الفريق الآخر على النقطة وفاز بالمباراة، ولكن أحمد كان يعلم جيدًا أنه فعل الصواب) [ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث، باميلا إيسبلاند، ص(291)، بتصرف].
فإن نظرتك لنفسك أيها الشاب هي التي تجعلك صادقًا في كل أحوالك، فالشخص الكبير ينظر إلى نفسه على أنها كبيرة، ولذا تجده في جميع أحواله صادقًا حتى وإن فعل شيئًا خاطئًا، ولم يره أحد، يُسارع ويخبر بأنه الخطأ الذي حدث من عنده، فهو لا يرفع شعارات مثل: (طالما أن أحدًا لم يرني إذًا فالأمر على ما يُرام).
ماذا بعد الكلام؟
بالنسبة للآباء:
إن توقعك أيها الوالد أن يخبرك أبناؤك بكل ما يفعلونه خارج البيت ليس هو نفس التوقع عندما تكون أنت مشاركًا إياهم حياتهم بالفعل، فعندما تطرح الأسئلة مثل: أين كنت؟ لماذا تأخرت؟ وعلاقتك مع ابنك في الأصل، لا تقوم على المشاركة والاهتمام به، فلا تظن أن ابنك سيخبرك بالحقيقة، وإن أخبرك فسيكون كلامه مقتضَبًا.
إن وجود علاقة صحيحة وفعَّالة بينك وبين ابنك المراهق، ستساعدك في تعويد ابنك على الصدق، فلتقل له:
(إنني أثق بك في أنك ستقوم بفعل الشيء الصحيح، لذلك ينبغي عليك أن تثق بي عندما أطرح عليك سؤالًا معينًا يتعلق بشيء كنت قد فعلته، وعندما أقوم بذلك فإنني أحب أن أسمع منك إجابة صادقة) [كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان، ص(256)، بتصرف].
بالنسبة للأبناء:
(كن مثالًا يُحتذى به بأن تكون صادقًا مع والديك، ومع إخواتك وأخواتك، وأصدقائك، وجيرانك، ومع ذاتك، وعندما تُزيف الحقيقة ولا تكون صادقًا، اعترف بذلك ثم اعتذر.
عاهد نفسك أن تكون صادقًا، وأخبر شخصًا تثق فيه عن هذا التعهد على أن يكون الصدق صفة من صفاته، وليكن: أحد الوالدين، أحد المدرسين، صديقًا مُقربًا، واطلب مساندته، والجأ لهذا الشخص عندما يصعب عليك أن تكون صادقًا) [ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث، باميلا إيسبلاند، ص(289)، بتصرف].
وأخيرًا:
إن الصدق يجب أن يكون حالة دائمة للشاب المسلم، تَغمُر قلبه ولسانه وجوارحه؛ فيصدق بقلبه مع ربه؛ فتكون أعماله كلها خالصة له سبحانه، ثم يَفيض ذلك الصدق على لسانه ليكون صفة لازمة له؛ فلا ينطق إلا بكل صدق، ثم تصطبغ جوارحه كلها بتلك الفضيلة؛ فتغدو معاملاته كلها مع عباد الله عليها كسوة الصدق، في نُصحهم ومعاملتهم، بحيث يستوى سره وعلانيته، لا يحمل لأحدهم غلًّا ولا غشًّا، ولا حقدًا ولاحسدًا، وكيف يحمل شيئًا من ذلك؟! وقد امتلأ قلبه بالصدق الهادي إلى كل بر، والعاصم من كل شر.
المصادر:
· سير أعلام النبلاء، الذهبي.
· ما يحتاجه المراهقون للنجاح، د.بيتر إل. بينسون – أ.جودي جالبرايث.
· كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان.
· مدارج السالكين، ابن القيم.
· تفسير السعدي.
الثلاثاء أغسطس 27, 2013 10:10 am من طرف سوس
» طريقه وضع توقيع فلاش
الجمعة يوليو 05, 2013 11:57 am من طرف fidou
» صيام ثلاثة أيام= صيام السنة كلها
الجمعة يوليو 05, 2013 10:56 am من طرف fidou
» ولا ذبابة.. !
الجمعة يوليو 05, 2013 10:52 am من طرف fidou
» يستحق الحب .. إنه نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
الجمعة يوليو 05, 2013 10:51 am من طرف fidou
» محفظ ٌ قرآن معتمد أونلاين
الجمعة يوليو 05, 2013 10:47 am من طرف fidou
» فضائل شهر رمضان
الجمعة يوليو 05, 2013 10:26 am من طرف fidou
» هل تريد النصر؟
الإثنين سبتمبر 10, 2012 8:40 pm من طرف أم محمود
» إجازة معتمده فى القراءات العشر عبر النت
الجمعة يونيو 29, 2012 12:03 am من طرف إجازه معتمده اونلاين
» اسرع إجازة عبر الإنترنت فى شهر متصلة السند بالرسول
الخميس يونيو 28, 2012 11:40 pm من طرف إجازه معتمده اونلاين
» منتديات دروبي عالمي الأسلأمي الدعوية اريد ان ادعوكم للمنتدايhttp://rfiaaildilrarb.7olm.org/
الإثنين يونيو 25, 2012 3:29 am من طرف ناصر السنة
» .~* وَسَقَطَت وَرِقه مَن شَجَرَة الْعُمُر *~.
الثلاثاء يونيو 19, 2012 10:09 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» !الأب مشغول..والأم فى الأسواق!
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:53 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ...حب دينك سبب ثباتك عليه...
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:28 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» حاسـوبي الأفضـل بين الحواسيب
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:03 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ! رساله الى أصحاب الوجوه العابسه !
الثلاثاء يونيو 19, 2012 8:52 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» صيام الأيام البيض لشهر رجب 1433
الجمعة يونيو 01, 2012 3:16 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر جمادى الاخرة 1433
الخميس مايو 03, 2012 3:49 am من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لهذا الشهر ربيع الثاني 1433
الإثنين مارس 05, 2012 3:20 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر ربيع الأول 1433
السبت فبراير 04, 2012 2:16 pm من طرف انور ابو البصل
» حلول قساوة القلوب
السبت يناير 28, 2012 1:29 pm من طرف انور ابو البصل
» لمن يريد دعوة شخص أجنبي للإسلام
السبت يناير 28, 2012 1:56 am من طرف الكعبة روحى
» علاج السرحان في الصلاة
السبت يناير 14, 2012 7:08 pm من طرف wegdan
» اسماء وصفات الله عز وجل
الخميس يناير 12, 2012 3:30 pm من طرف ا.عمرو
» اجعل الله همك يكفك ما اهمك
الخميس يناير 12, 2012 1:49 pm من طرف wegdan
» روائع الكلام
الخميس يناير 12, 2012 12:18 am من طرف ا.عمرو
» العبرة بالنهاية
الأربعاء يناير 11, 2012 7:06 pm من طرف ابومحمودعماد محمود
» مخطط جورج سوروس الذي يدافع عنه البرادعي لاختطاف الثورة المصرية
السبت يناير 07, 2012 9:27 am من طرف ا.عمرو