• حقد الباطنية على شعيرة الحج سافرٌ لئيم، وحُلمهم بصرف الحج عن البيت العتيق قديم كحلم أبرهة.
• حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام!
• قتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وجافت مكة بالقتلى، وسبيت الذرية، ولم يقف أحد في عرفة تلك السنة.
• ظل الحجر الأسود عند القرامطة مدة اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
• القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وفعلوا بمكة ما لم يفعله أحد.
• من واجبنا الشكر لله تعالى على ما أظل به البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، ليبقى البيت مثابة الأمن لكل خائف.
• • • • •
في ذاكرة الحج:
في ذاكرة الحج صور كثيرة، فقد تعاورته الأحداث، وتداولته الأيام، وتقلب بين أمن وخوف، ويسر وعسر، وصفو وكدر، والأيام دول، فيوم نُساءُ، ويوم نُسَرُّ، غير أن أشد أيام الحج كان يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وعشرة أيام تلته. فما الذي وقع فيهن؟ وماذا حل بالبيت العتيق وتلك الأرض المباركة؟
في سنة سبع عشرة وثلاثمائة المذكورة سيَّر الخليفةُ العباسي المقتدر ركبَ حجاج العراق وأميرهم منصورًا الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافد الحجاج هناك من كل مكان وجانب، وجاؤوا رجالاً وعلى كل ضامرٍ من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فما شعروا إلا بعدو الله القرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية!.
من القرمطي هذا؟
هو عدو الله ملك البحرين، الزنديق، أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله.
ومن القرامطة؟
القرامطة فرقة من فرق الإسماعيلية، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، والإسماعيلية امتازت بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر. وأشهر ألقابهم (الباطنية)، لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة؛ فبالعراق: يُسمَّون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة. وهؤلاء الباطنية قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول هو موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. وكذلك في جميع الصفات. ويعتقدون بأنه يأتي على الناس دور ترتفع فيه التكاليف وتضمحل السنن والشرائع.
سلسلة من الاعتداءات على وفود الرحمن:
وليست هذه هي المرة الأولى التي تعرَّض فيها القرامطةُ للحج والحجيج، فإن حقدهم على هذه الشعيرة سافرٌ قديم، فقد قطعوا الطريق، وأخافوا الناس، ومنعوا الحج لسنوات عدة، ففي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في المحرم عارض القرمطي الركب العراقي ومعه ألف فارس وألف راجل فوضعوا السيف في رقابهم، واستباحوا الحجيج، وساقوا الجمال بالأموال والحريم، وهلك الناس جوعاً وعطشاً، ونجا من نجا بأسوأ حال، ووقع النوح والبكاء ببغداد وغيرها، وامتنع الناس من الصلوات في المساجد.
وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة سار الركب العراقي ومعهم ألف فارس فاعترضهم القرمطي أيضاً، وناوشهم القتال فردوا الناس، ولم يحجوا، ونزل القرمطي على الكوفة فقاتلوه، فغلب على البلد فنهبه.
وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة لم يحج أحد من العراق خوفاً من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها خوفاً منهم. ولكن هذه الغارات والاعتداءات كلها لا تكاد تذكر مع ما ارتكبه القرمطي من جرائم وقبائح في هذه المرة، فماذا صنع -تبت يداه وتب- يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة؟.
حقد باطني لا يطفئه إلا سفك الدماء:
زحف عدو الله القرمطي، إلى مكة، بجيشه، فوافى مكة لسبع خلون من ذي الحجة، عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم، فقتلوا في المسجد الحرام نحو ألف وسبعمائة من الرجال والنساء وهم يتعلقون بأستار الكعبة، وردم بئر زمزم، وصعد أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، وهو يصيح: أنا الله وبالله، أنا أخلق الخلق وأفنيهم، أنا، أنا....!!. والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، والناس يطوفون فيقتلون في الطواف.
مقتل بعض أهل الحديث في تلك الوقعة:
وممن قتله القرامطة: عبد الرحمن بن عبد الله بن الزبير، أبو بكر الرهاوي. ممن سكن دمشق، روى عن أبيه، وغيره، وروى عنه أبو الحسين الرازي، وغيره.
وكان علي بن بابويه الصوفي وهو عالم، فقيه، من أهل الحديث، يطوف بالبيت والسيوف تنوشه، وهو ينشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
شهداء الحرم:
ثم لما قضى القرمطي -لعنه الله- أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام.
ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام يطوفون ملبين ذاكرين قانتين، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا، ولم يصل عليهم؛ لأنهم محرمون شهداء، ويبعثون على هيئاتهم يوم يبعثون، ويبعث عدوهم القرمطي تحت لواء الغدر على رؤوس الأشهاد.
تخريب الكعبة وسرقة أموالها وآثارها:
وهدم الخبيث القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، ونهب حليها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء والأنبياء، ثم أمر الباطني الخبيث رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه، فمات إلى النار، وبئس القرار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب!.
محنة الحجر الأسود:
قيل: دخل قرمطي سكران على فرس، فصفر له، فبال عند البيت، وضرب الحجر بمثقل من حديد فهشمه ثم اقتلعه، وصاح الأحمق الزنديق قبحه الله: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟.
أعظم الجهاد كلمة عدل!.
روى محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي، وكان ممن شهد تلك الوقعة، فقال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل قرمطي على رجل كان إلى جانبي فقتله، ثم صاح بأعلى صوته، وقال: يا حمير!! أليس قلتم في بيتكم هذا: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فأين الأمن؟.
قال الطائي: فاستسلمت لله، فقلت له: اسمع جوابك!.
قال: نعم.
قلت: إنما أراد الله: فأمِّنوه
فلوى القرمطي رأسه فرسه، وانصرف، وما كلمني!.
كلمة حق في وجه مجرم فاتك في موطن خوف وسفك دم. ما أثقلَها في الميزان من كلمة!.
إحصاء القتلى في تلك المذبحة:
وأحصي من قتل في سكك مكة وما حولها فكانوا زهاء ثلاثين ألفاً، وأقام القرمطي، قبحه الله، وجيشه، بمكة أحد عشر يوماً، يعيثون فيها فساداً، وجافت مكة بالقتلى، وسبى الذرية، ولم يقف أحد بعرفة تلك السنة ثم رجع القرامطة إلى بلاد هجر، وأخذوا معهم الحجر الأسود.
مقتل أمير مكة وأهل بيته:
لما رجع القرمطي إلى بلاده، ومعه الحجر الأسود، تبعه أمير مكة ابن محلب هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة، فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وقتل أكثر جنده وشتتهم، رحمهم الله، وجزاهم عن بيته ودينه خير الجزاء.
وسار القرمطي بالحجر الأسود إلى بلاده، ويقال: هلك تحته إلى هجر أربعون جملاً، فلما أعيد كان على قَعُود ضعيف، فسَمِن. قلت: ربما صح ذلك، فيكون من آيات الله في هذا الحجر، وهي كثيرة مشتهرة، وربما كان هذا مما تخيله الناس وتناقلوه، ولعله عز عليهم أن يأخذ أعداء الله الحجر، ويذهبوا به سالمين، فشفوا غيظهم في هلاك تلك الدواب، والله أعلم.
نصب الحجر الأسود في الكوفة:
حمل القرامطة الحجر الأسود إلى الكوفة، ونصبوه فيها على الأسطوانة بالجامع، وأرادوا أن يستميلوا به الناس، ويصرفوا الحج إليها، وهو حلم الباطنية من قديم، فشابهوا بذلك أبرهة الحبشي الذي بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، بناها، ليصرف إليها حج العرب، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
الصلح مع أبي طاهر القرمطي، ورد الحجر إلى البيت:
وحاول المسلمون استرداد الحجر الأسود من القرامطة، منهم (بجكم التركي) أمير الأمراء في بغداد زمن الراضي بالله والمتقي، دفع لهم فيه خمسين ألف دينار، فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، وما نرده إلا بأمر.
ثم جرت لأبي طاهر مع المسلمين حروب أوهنته، وقتل أكثر جنده، لا رحمهم الله، وطلب الأمان على أن يرد الحجر، وأن يأخذ عن كل حاج ديناراً ويخفرهم، وأن لا يتعرض للحجاج أبداً، فطابت قلوب الناس، وحجوا آمنين.
ثم قدم به سنبر بن الحسن وهو كاتب أبي طاهر ووزيره إلى مكة، وخرج أمير مكة معه وجماعة من حجبة البيت، فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصوناً، وعلى الحجر ضِباب فضة قد عملت عليه، تأخذه طولاً وعرضاً، تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه ؛ فوضعه سنبر بيده في موضعه، وقال: أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئته. وشده الصانع بالجص بعد وضعه، ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه.
مدة حبسه عند القرامطة في البحرين:
وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. فكانت مدة بقائه عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
القرامطة والعبيديون من رحم واحدة!.
والسؤال الذي يطرح نفسه كما يقولون: ما الذي حمل القرامطة على ارتكاب هذه المجازر البشعة؟ وهل كانوا مسلمين أم ماذا؟
أجاب ابن كثير بقوله: "وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للعبيديين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح. وقد كان هذا صباغاً بسلمية، وقيل: إنه كان يهودياً ونسبه مُعرِقٌ في اليهوديّة، فادعى الإسلام، ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، واستقر ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه.
وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك، ويلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، ويقول له: قد حققتَ على أتباعنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلتَ!. وأمره برد الحجر الأسود إلى مكانه ورد ما أخذه من مكة. اهـ.
ولكن المشهور الثابت أنه لم يرده إلا بعد اثنتين وعشرين سنة.
إشكالٌ وجوابه:
سؤال يجول في الخاطر، أجاب عنه ابن كثير، وجلاه، فقال: وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً، فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل -وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام ومن أبي جهل وأبي لهب، فقد بقيت حرمة هذا البيت سارية عند أهل الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: ((كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج)). أما القرامطة فقد فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجل هؤلاء الزنادقة بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟
قال: وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرام إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" [رواه البخاري]. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وقال: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران: 196]، وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]، وقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] اهـ كلام ابن كثير.
وليست هذه هي المرة الأولى التي خربت فيها الكعبة، وأزيل الحجر فيها عن مكانه، فقد وقع ذلك من جرهم وإياد والعماليق وخزاعة ثم رده الله إلى مكانه، وعُد ذلك من آياته، حرسه الله.
هلاك الزنديق الملعون القرمطي، قبحه الله:
طالت أيام هذا الملعون الزنديق، أبي طاهر الجنابي الهجري، رئيس القرامطة، وكان بلاءً عظيماً على الإسلام وأهله، ثم هلك عدو الله، رأس هذه الفتنة، قبحه الله، هلك بالجدري -لا رحمه الله- في رمضان سنة اثنتين وثلاثمائة بهجر كهلا.
دروس وعبر:
هذه صفحات سوداء مظلمة من التاريخ، حافلة بالفجائع التي يذوب لها القلب كمداً، ولا أبغي من وراء استدعائها وعرضها أن أنكأ الجراح ولا أن أزيد الأمة أسى، لكثرة مآسيها، وما فيها يكفيها، لكن الغرض من تصفح التاريخ والقراءة في أوراقه هو الاستفادة من دروسه، وفي التاريخ عبر، كما قال تعالى: {.... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال أيضاً في قصص النبيين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. ولكي لا نلدغ من جحر مرتين، والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون، وشواهده في التاريخ المعاصر ماثلة للعيان، ولا تزال بعض الجهات المشبوهة إلى يومنا هذا تدرج حركة القرامطة في الحركات التقدمية والثورية في التاريخ، وتملي على طلابها في مؤسساتها التعليمية هذا الهذيان!. ولا غرو فإنها أوقعت بالمسلمين أفظع مما فعله أسلافهم من القرامطة الزنادقة والباطنية الملاحدة، ونسأل الله العافية من هذه الهاوية.
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلُبه كل مأخذ، حين يرى البشرية تنتكس بين حين وآخر وترجع إلى جاهليتها، وترتكس في وحلها وتغيب في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات الفاسدة والشهوات الجامحة وظلام الطغيان الدامي، وهذه هي ((الرجعية)) البائسة المرذولة التي يعيشها هؤلاء الثوريون التقدميون، ويستمرئون الانغماس في أوحالها، ولذلك عندما يتحرك الإسلام، لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية وانتشالها من هذه ((الرجعية))؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ فإنه لا بد أن يتعرض حامل دعوته إلى الأذى والاضطهاد والتعويق كالذي تعرض له الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، فلا ملجأ إلا الصبر والثبات حتى يأتي الله بأمره.
هذا ومن أعظم الاعتبار بهذه الصفحة من تاريخ الحج القيام بواجب الشكر لله تعالى على ما أظل به تلك البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، وأن نحرص على دوام هذه النعمة، ونحرس بيته من كيد الفجار ومكر الليل والنهار، ليبقى مثابة الأمن لكل خائف، ونظل بالمرصاد لكل من أراد فيه بظلم بإلحاد.
• حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام!
• قتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وجافت مكة بالقتلى، وسبيت الذرية، ولم يقف أحد في عرفة تلك السنة.
• ظل الحجر الأسود عند القرامطة مدة اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
• القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وفعلوا بمكة ما لم يفعله أحد.
• من واجبنا الشكر لله تعالى على ما أظل به البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، ليبقى البيت مثابة الأمن لكل خائف.
• • • • •
في ذاكرة الحج:
في ذاكرة الحج صور كثيرة، فقد تعاورته الأحداث، وتداولته الأيام، وتقلب بين أمن وخوف، ويسر وعسر، وصفو وكدر، والأيام دول، فيوم نُساءُ، ويوم نُسَرُّ، غير أن أشد أيام الحج كان يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وعشرة أيام تلته. فما الذي وقع فيهن؟ وماذا حل بالبيت العتيق وتلك الأرض المباركة؟
في سنة سبع عشرة وثلاثمائة المذكورة سيَّر الخليفةُ العباسي المقتدر ركبَ حجاج العراق وأميرهم منصورًا الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافد الحجاج هناك من كل مكان وجانب، وجاؤوا رجالاً وعلى كل ضامرٍ من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فما شعروا إلا بعدو الله القرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية!.
من القرمطي هذا؟
هو عدو الله ملك البحرين، الزنديق، أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله.
ومن القرامطة؟
القرامطة فرقة من فرق الإسماعيلية، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، والإسماعيلية امتازت بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر. وأشهر ألقابهم (الباطنية)، لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة؛ فبالعراق: يُسمَّون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة. وهؤلاء الباطنية قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول هو موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. وكذلك في جميع الصفات. ويعتقدون بأنه يأتي على الناس دور ترتفع فيه التكاليف وتضمحل السنن والشرائع.
سلسلة من الاعتداءات على وفود الرحمن:
وليست هذه هي المرة الأولى التي تعرَّض فيها القرامطةُ للحج والحجيج، فإن حقدهم على هذه الشعيرة سافرٌ قديم، فقد قطعوا الطريق، وأخافوا الناس، ومنعوا الحج لسنوات عدة، ففي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في المحرم عارض القرمطي الركب العراقي ومعه ألف فارس وألف راجل فوضعوا السيف في رقابهم، واستباحوا الحجيج، وساقوا الجمال بالأموال والحريم، وهلك الناس جوعاً وعطشاً، ونجا من نجا بأسوأ حال، ووقع النوح والبكاء ببغداد وغيرها، وامتنع الناس من الصلوات في المساجد.
وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة سار الركب العراقي ومعهم ألف فارس فاعترضهم القرمطي أيضاً، وناوشهم القتال فردوا الناس، ولم يحجوا، ونزل القرمطي على الكوفة فقاتلوه، فغلب على البلد فنهبه.
وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة لم يحج أحد من العراق خوفاً من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها خوفاً منهم. ولكن هذه الغارات والاعتداءات كلها لا تكاد تذكر مع ما ارتكبه القرمطي من جرائم وقبائح في هذه المرة، فماذا صنع -تبت يداه وتب- يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة؟.
حقد باطني لا يطفئه إلا سفك الدماء:
زحف عدو الله القرمطي، إلى مكة، بجيشه، فوافى مكة لسبع خلون من ذي الحجة، عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم، فقتلوا في المسجد الحرام نحو ألف وسبعمائة من الرجال والنساء وهم يتعلقون بأستار الكعبة، وردم بئر زمزم، وصعد أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، وهو يصيح: أنا الله وبالله، أنا أخلق الخلق وأفنيهم، أنا، أنا....!!. والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، والناس يطوفون فيقتلون في الطواف.
مقتل بعض أهل الحديث في تلك الوقعة:
وممن قتله القرامطة: عبد الرحمن بن عبد الله بن الزبير، أبو بكر الرهاوي. ممن سكن دمشق، روى عن أبيه، وغيره، وروى عنه أبو الحسين الرازي، وغيره.
وكان علي بن بابويه الصوفي وهو عالم، فقيه، من أهل الحديث، يطوف بالبيت والسيوف تنوشه، وهو ينشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
شهداء الحرم:
ثم لما قضى القرمطي -لعنه الله- أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام.
ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام يطوفون ملبين ذاكرين قانتين، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا، ولم يصل عليهم؛ لأنهم محرمون شهداء، ويبعثون على هيئاتهم يوم يبعثون، ويبعث عدوهم القرمطي تحت لواء الغدر على رؤوس الأشهاد.
تخريب الكعبة وسرقة أموالها وآثارها:
وهدم الخبيث القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، ونهب حليها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء والأنبياء، ثم أمر الباطني الخبيث رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه، فمات إلى النار، وبئس القرار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب!.
محنة الحجر الأسود:
قيل: دخل قرمطي سكران على فرس، فصفر له، فبال عند البيت، وضرب الحجر بمثقل من حديد فهشمه ثم اقتلعه، وصاح الأحمق الزنديق قبحه الله: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟.
أعظم الجهاد كلمة عدل!.
روى محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي، وكان ممن شهد تلك الوقعة، فقال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل قرمطي على رجل كان إلى جانبي فقتله، ثم صاح بأعلى صوته، وقال: يا حمير!! أليس قلتم في بيتكم هذا: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فأين الأمن؟.
قال الطائي: فاستسلمت لله، فقلت له: اسمع جوابك!.
قال: نعم.
قلت: إنما أراد الله: فأمِّنوه
فلوى القرمطي رأسه فرسه، وانصرف، وما كلمني!.
كلمة حق في وجه مجرم فاتك في موطن خوف وسفك دم. ما أثقلَها في الميزان من كلمة!.
إحصاء القتلى في تلك المذبحة:
وأحصي من قتل في سكك مكة وما حولها فكانوا زهاء ثلاثين ألفاً، وأقام القرمطي، قبحه الله، وجيشه، بمكة أحد عشر يوماً، يعيثون فيها فساداً، وجافت مكة بالقتلى، وسبى الذرية، ولم يقف أحد بعرفة تلك السنة ثم رجع القرامطة إلى بلاد هجر، وأخذوا معهم الحجر الأسود.
مقتل أمير مكة وأهل بيته:
لما رجع القرمطي إلى بلاده، ومعه الحجر الأسود، تبعه أمير مكة ابن محلب هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة، فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وقتل أكثر جنده وشتتهم، رحمهم الله، وجزاهم عن بيته ودينه خير الجزاء.
وسار القرمطي بالحجر الأسود إلى بلاده، ويقال: هلك تحته إلى هجر أربعون جملاً، فلما أعيد كان على قَعُود ضعيف، فسَمِن. قلت: ربما صح ذلك، فيكون من آيات الله في هذا الحجر، وهي كثيرة مشتهرة، وربما كان هذا مما تخيله الناس وتناقلوه، ولعله عز عليهم أن يأخذ أعداء الله الحجر، ويذهبوا به سالمين، فشفوا غيظهم في هلاك تلك الدواب، والله أعلم.
نصب الحجر الأسود في الكوفة:
حمل القرامطة الحجر الأسود إلى الكوفة، ونصبوه فيها على الأسطوانة بالجامع، وأرادوا أن يستميلوا به الناس، ويصرفوا الحج إليها، وهو حلم الباطنية من قديم، فشابهوا بذلك أبرهة الحبشي الذي بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، بناها، ليصرف إليها حج العرب، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
الصلح مع أبي طاهر القرمطي، ورد الحجر إلى البيت:
وحاول المسلمون استرداد الحجر الأسود من القرامطة، منهم (بجكم التركي) أمير الأمراء في بغداد زمن الراضي بالله والمتقي، دفع لهم فيه خمسين ألف دينار، فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، وما نرده إلا بأمر.
ثم جرت لأبي طاهر مع المسلمين حروب أوهنته، وقتل أكثر جنده، لا رحمهم الله، وطلب الأمان على أن يرد الحجر، وأن يأخذ عن كل حاج ديناراً ويخفرهم، وأن لا يتعرض للحجاج أبداً، فطابت قلوب الناس، وحجوا آمنين.
ثم قدم به سنبر بن الحسن وهو كاتب أبي طاهر ووزيره إلى مكة، وخرج أمير مكة معه وجماعة من حجبة البيت، فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصوناً، وعلى الحجر ضِباب فضة قد عملت عليه، تأخذه طولاً وعرضاً، تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه ؛ فوضعه سنبر بيده في موضعه، وقال: أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئته. وشده الصانع بالجص بعد وضعه، ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه.
مدة حبسه عند القرامطة في البحرين:
وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. فكانت مدة بقائه عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
القرامطة والعبيديون من رحم واحدة!.
والسؤال الذي يطرح نفسه كما يقولون: ما الذي حمل القرامطة على ارتكاب هذه المجازر البشعة؟ وهل كانوا مسلمين أم ماذا؟
أجاب ابن كثير بقوله: "وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للعبيديين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح. وقد كان هذا صباغاً بسلمية، وقيل: إنه كان يهودياً ونسبه مُعرِقٌ في اليهوديّة، فادعى الإسلام، ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، واستقر ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه.
وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك، ويلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، ويقول له: قد حققتَ على أتباعنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلتَ!. وأمره برد الحجر الأسود إلى مكانه ورد ما أخذه من مكة. اهـ.
ولكن المشهور الثابت أنه لم يرده إلا بعد اثنتين وعشرين سنة.
إشكالٌ وجوابه:
سؤال يجول في الخاطر، أجاب عنه ابن كثير، وجلاه، فقال: وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً، فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل -وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام ومن أبي جهل وأبي لهب، فقد بقيت حرمة هذا البيت سارية عند أهل الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: ((كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج)). أما القرامطة فقد فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجل هؤلاء الزنادقة بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟
قال: وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرام إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" [رواه البخاري]. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وقال: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران: 196]، وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]، وقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] اهـ كلام ابن كثير.
وليست هذه هي المرة الأولى التي خربت فيها الكعبة، وأزيل الحجر فيها عن مكانه، فقد وقع ذلك من جرهم وإياد والعماليق وخزاعة ثم رده الله إلى مكانه، وعُد ذلك من آياته، حرسه الله.
هلاك الزنديق الملعون القرمطي، قبحه الله:
طالت أيام هذا الملعون الزنديق، أبي طاهر الجنابي الهجري، رئيس القرامطة، وكان بلاءً عظيماً على الإسلام وأهله، ثم هلك عدو الله، رأس هذه الفتنة، قبحه الله، هلك بالجدري -لا رحمه الله- في رمضان سنة اثنتين وثلاثمائة بهجر كهلا.
دروس وعبر:
هذه صفحات سوداء مظلمة من التاريخ، حافلة بالفجائع التي يذوب لها القلب كمداً، ولا أبغي من وراء استدعائها وعرضها أن أنكأ الجراح ولا أن أزيد الأمة أسى، لكثرة مآسيها، وما فيها يكفيها، لكن الغرض من تصفح التاريخ والقراءة في أوراقه هو الاستفادة من دروسه، وفي التاريخ عبر، كما قال تعالى: {.... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال أيضاً في قصص النبيين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. ولكي لا نلدغ من جحر مرتين، والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون، وشواهده في التاريخ المعاصر ماثلة للعيان، ولا تزال بعض الجهات المشبوهة إلى يومنا هذا تدرج حركة القرامطة في الحركات التقدمية والثورية في التاريخ، وتملي على طلابها في مؤسساتها التعليمية هذا الهذيان!. ولا غرو فإنها أوقعت بالمسلمين أفظع مما فعله أسلافهم من القرامطة الزنادقة والباطنية الملاحدة، ونسأل الله العافية من هذه الهاوية.
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلُبه كل مأخذ، حين يرى البشرية تنتكس بين حين وآخر وترجع إلى جاهليتها، وترتكس في وحلها وتغيب في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات الفاسدة والشهوات الجامحة وظلام الطغيان الدامي، وهذه هي ((الرجعية)) البائسة المرذولة التي يعيشها هؤلاء الثوريون التقدميون، ويستمرئون الانغماس في أوحالها، ولذلك عندما يتحرك الإسلام، لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية وانتشالها من هذه ((الرجعية))؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ فإنه لا بد أن يتعرض حامل دعوته إلى الأذى والاضطهاد والتعويق كالذي تعرض له الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، فلا ملجأ إلا الصبر والثبات حتى يأتي الله بأمره.
هذا ومن أعظم الاعتبار بهذه الصفحة من تاريخ الحج القيام بواجب الشكر لله تعالى على ما أظل به تلك البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، وأن نحرص على دوام هذه النعمة، ونحرس بيته من كيد الفجار ومكر الليل والنهار، ليبقى مثابة الأمن لكل خائف، ونظل بالمرصاد لكل من أراد فيه بظلم بإلحاد.
الثلاثاء أغسطس 27, 2013 10:10 am من طرف سوس
» طريقه وضع توقيع فلاش
الجمعة يوليو 05, 2013 11:57 am من طرف fidou
» صيام ثلاثة أيام= صيام السنة كلها
الجمعة يوليو 05, 2013 10:56 am من طرف fidou
» ولا ذبابة.. !
الجمعة يوليو 05, 2013 10:52 am من طرف fidou
» يستحق الحب .. إنه نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
الجمعة يوليو 05, 2013 10:51 am من طرف fidou
» محفظ ٌ قرآن معتمد أونلاين
الجمعة يوليو 05, 2013 10:47 am من طرف fidou
» فضائل شهر رمضان
الجمعة يوليو 05, 2013 10:26 am من طرف fidou
» هل تريد النصر؟
الإثنين سبتمبر 10, 2012 8:40 pm من طرف أم محمود
» إجازة معتمده فى القراءات العشر عبر النت
الجمعة يونيو 29, 2012 12:03 am من طرف إجازه معتمده اونلاين
» اسرع إجازة عبر الإنترنت فى شهر متصلة السند بالرسول
الخميس يونيو 28, 2012 11:40 pm من طرف إجازه معتمده اونلاين
» منتديات دروبي عالمي الأسلأمي الدعوية اريد ان ادعوكم للمنتدايhttp://rfiaaildilrarb.7olm.org/
الإثنين يونيو 25, 2012 3:29 am من طرف ناصر السنة
» .~* وَسَقَطَت وَرِقه مَن شَجَرَة الْعُمُر *~.
الثلاثاء يونيو 19, 2012 10:09 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» !الأب مشغول..والأم فى الأسواق!
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:53 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ...حب دينك سبب ثباتك عليه...
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:28 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» حاسـوبي الأفضـل بين الحواسيب
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:03 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ! رساله الى أصحاب الوجوه العابسه !
الثلاثاء يونيو 19, 2012 8:52 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» صيام الأيام البيض لشهر رجب 1433
الجمعة يونيو 01, 2012 3:16 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر جمادى الاخرة 1433
الخميس مايو 03, 2012 3:49 am من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لهذا الشهر ربيع الثاني 1433
الإثنين مارس 05, 2012 3:20 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر ربيع الأول 1433
السبت فبراير 04, 2012 2:16 pm من طرف انور ابو البصل
» حلول قساوة القلوب
السبت يناير 28, 2012 1:29 pm من طرف انور ابو البصل
» لمن يريد دعوة شخص أجنبي للإسلام
السبت يناير 28, 2012 1:56 am من طرف الكعبة روحى
» علاج السرحان في الصلاة
السبت يناير 14, 2012 7:08 pm من طرف wegdan
» اسماء وصفات الله عز وجل
الخميس يناير 12, 2012 3:30 pm من طرف ا.عمرو
» اجعل الله همك يكفك ما اهمك
الخميس يناير 12, 2012 1:49 pm من طرف wegdan
» روائع الكلام
الخميس يناير 12, 2012 12:18 am من طرف ا.عمرو
» العبرة بالنهاية
الأربعاء يناير 11, 2012 7:06 pm من طرف ابومحمودعماد محمود
» مخطط جورج سوروس الذي يدافع عنه البرادعي لاختطاف الثورة المصرية
السبت يناير 07, 2012 9:27 am من طرف ا.عمرو