السلام عليكم ورحمة الله
اليوم إخواني الكرام سنقوم بعمل سلسلة لتفسير القرآن الكريم
وسنقوم بالبدأ بجزء عم
بسم الله توكلت على الله
تفسير سورة النبأ
ذكر الله تعالى في هذه السورة العظيمة أدلة البعث الأربعة، ثم ذكر حال الكافرين في جهنم، وذكر حال المؤمنين في الجنة، ورغب في الإنابة إلى الله تعالى، وختمها بالإخبار أن كل امرئ سيرى ما قدمت يداه في هذه الدنيا، وعند ذلك يتحسر الكافر على ما فرط أشد التحسر حتى إنه يتمنى أنه كان تراباً، فما أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من المعاني الجليلة، والأصول الكبيرة، والمواعظ البليغة.
تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم )
فمن أطلق عليها سورة النبأ فلذكر النبأ فيها، ومن أطلق عليها عمَّ فلابتدائها بكلمة ( عمَّ ).
قوله تعالى: { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } [النبأ:1]، ( عمَّ ) أصلها: عن ما، أي: عن ماذا، فهي مركبة من كلمتين: عن وما، فأدمجت النون في الميم وقيل: عمَّ، كقولهم: مما، فهي كلمتان: من ما، { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } أي: عن أي شيء يتساءلون؟ و { يَتَسَاءَلُونَ } معناها: يسأل بعضهم بعضاً، ومن هم الذين يتساءلون؟ كثيرٌ من أهل العلم يقولون: إن الذين يتساءلون هم المشركون، فالمشركون هم الذين يتساءلون.
ويتساءلون عن ماذا؟ أجيب على هذا السؤال في الآية التي تليها، إن سألت -يا محمد- عن أي شيء يتساءلون، فاعلم أنهم يتساءلون { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } [النبأ:2]، فهذا تأويل هذه الآية.
وقد قيل: إن المراد بالنبأ العظيم هو البعث بعد الموت، وهذا رأي جمهور المفسرين.
وقال فريق آخر من أهل العلم: إن النبأ العظيم هو القرآن، واستدل لهذا القول الثاني بقوله تعالى: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ص:67-68]، ومن العلماء من قال: إن النبأ العظيم هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإرساله إليهم.
فهذه ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير النبأ العظيم، وكل قول منها قال به بعض العلماء، والذي عليه الجمهور: أن النبأ العظيم هو: البعث بعد الموت، والمراد بالنبأ الخبر، فعلى هذا يكون تأويل الآيات، عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً؟ إن سألت عن ذلك -يا محمد- فاعلم أنهم يتساءلون { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } [النبأ:2-3].
إن قال قائل: ذكرتم أن الذين يتساءلون -كما هو رأي أكثر العلماء- هم المشركون، فهل المشركون مختلفون في النبأ العظيم لأن الله تعالى قال: { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ فهل المشركون يختلفون في البعث؟ والمعهود أن المشركين ينكرون البعث! فلماذا اختلفوا؟ وما هو وجه اختلافهم هنا؟ فالإجابة: أن المشركين لم يكونوا جميعاً مطبقين على أن البعث غير آت، بل كان منهم من يقر بالبعث، ومنهم من كان يتشكك في أمره، ومنهم من كان ينفيه بالكلية، فطوائف النصارى يقرون بالبعث، لكن البعث عندهم له صفات أخر، وأحداث أخر غير البعث الذي يعتقده أهل الإسلام، وكذلك طوائف من اليهود، فإنهم يقولون: { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة:80]، وهذا يفيد أنهم يقرون بالبعث، لكن له صفة معينة عندهم.
أما الذين يتشككون في أمر البعث، فكما حكى الله مقالتهم في قوله: { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت:50]، وقال حاكياً عن بعضهم: { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا } [الكهف:36]، أي: على فرض أن هناك بعثاً، فهذا الكافر يقول: لئن رددت إلى ربي فإنه قد أكرمني في الدنيا، فسيكرمني بكرامة أكبر منها في الآخرة.
وقال تعالى: { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } [النمل:66]، فكانت هناك طوائف تثبت البعث، لكن على صفات أخر، وطوائف تتشكك في أمر البعث، وطوائف تنفي البعث مطلقاً، كما قال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:78-79]، وقال الله سبحانه وتعالى: { بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:2-3]، فكانت طائفة منهم تنكر البعث، فهذه أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تفسير النبأ العظيم بأنه البعث بعد الموت.
أما على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فأوجه خلافهم فيه على النحو التالي: منهم من يقول: إنه { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، أي: هو قصص من قصص اليهود كتبها أو اكتتبها وكتبها له شخص آخر، (تملى عليه بكرة وأصيلاً) كما هو مسطر في كتب اليهود، فاليهود يقولون: إن هذا القرآن من تعليم عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عمى بصائرهم أن ابن سلام لم يسلم إلا في المدينة، وكثير جداً من آيات الكتاب العزيز نزلت على رسول الله بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى رجل من الموالي بمكة، فطعن الكافرون في القرآن وقالوا: إن هذا الرجل هو الذي يلقن الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [النحل:103] أي: الرجل الذي يميلون إلى أنه علم الرسول، { أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:103].
فهذا وجه من أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فطائفة منهم تقول: هو { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، ومنهم من قال: إنه قول ساحر، ومنهم من قال: إنه قول كاهن، إلى غير ذلك من الأقوال.
أدلة البعث في القرآن
والذي يرجح أن النبأ العظيم هو البعث بعد الموت أن أدلة البعث الأربعة ذكرت في هذه السورة؛ لأن أدلة البعث التي يستدل بها الله في كتابه على البعث تدور على أربعة أشياء، وتتكرر في سور القرآن بأساليب متنوعة، ويصرفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بسياقات متعددة، وبراهين البعث الأربعة وأدلة البعث الأربعة تدور على الآتي: الدليل الأول من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، فيستدل بخلق السماوات والأرض على البعث، ووجه هذا الاستدلال: أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر:57]، فالذي خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر، إذا كان الله خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق من هو أدنى وأقل من السماوات والأرض، قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر:57].
وهذا الدليل يتصرف بعدة أساليب، والمعنى ثابت، فيأتي هذا المعنى في سياقات متنوعة ومتعددة، في خلال قصص، وفي خلال آيات التذكير، وكله ينصب على هذا المعنى: السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالذي خلقها قادر على أن يخلق الناس، والأدلة على هذا في كتاب الله متعددة: كقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:78-79]، إلى قوله: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس:81]، وكذلك في مطلع سورة (ق) قال الله حاكياً عن المشركين: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:3]، يقول تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق:4-7]، فلما أنكروا البعث -كما في سورة ق- استدل على البعث بخلق السماوات والأرض قال تعالى حاكياً مقالتهم: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:3]، فيقول تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } [ق:4-7] الآيات.
ونحو هذا في سورة الغاشية: { وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية:18-20]، فكلها آيات تدور على هذا الشيء، فهذا أول استدلال على البعث ألا وهو الاستدلال بخلق السماوات وخلق الأرض.
والدليل الثاني على البعث: يكون بالاستدلال على إحياء بعض الأنفس بعد موتها، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله عنه: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:260]، وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [البقرة:243]، وقال تعالى: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة:73]، وقال تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [البقرة:259].
وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفي سورة عمَّ شيء مشابه لهذا، ألا وهو: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } [النبأ:9]، فالنوم موت كما قال الله: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر:42]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) فهذا وجه الدليل الثاني على البعث.
الدليل الثالث على البعث هو: إحياء الأرض بعد موتها، ويذكره الله في كتابه بعدة أساليب، كقوله: { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج:5-6]، فالذي أحيا الأرض بعد موتها سيحيي الموتى أيضاً، فهذا الاستدلال الثالث على البعث وهو: إحياء الأرض بعد موتها.
الدليل الرابع على البعث: الخلق الأول، وهو الاستدلال على البعث بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يعيد خلقك، فالذي صنع شيئاً أول مرة قادر على إعادة صنع هذا الشيء مرة أخرى، كما قال تعالى: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق:15]، أي: أفأتعبنا وأرهقنا الخلق الأول حتى يتشككوا في البعث؟! فهذه أربعة أدلة على البعث ومضامينها مذكورة في سورة عمَّ، وهذا هو الذي رجح أن المراد بالنبأ العظيم البعث بعد الموت، وسيأتي الكلام عليها واحداً واحداً إن شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (كلا سيعلمون .)
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:4]، (كلا) كلمة: ردع وزجر ونفي لمعنىً متقدم، فمثلاً: قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا } [عبس:1-11]، فكلا هنا معناها: وليس الأمر كما تصرفت يا محمد! ليس التصرف الصحيح هو الذي تصرفته في هذا المقام.
فكلا نفي للتصرف الذي تقدم، وللظن الذي تقدم، فكلا أحياناً تتضمن معنى الردع والزجر، فهنا قال تعالى: (كَلَّا)، أي: ليس الأمر كما ظننتم أنه ليس هناك بعث، وليس الأمر كما توهمتم أن محمداً ساحر، وليس الأمر كما توهمتم أنها: { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، فهذا الظن ظن خاطئ، { سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:4] أن ظنهم خاطئ، وأن قولهم في غير محله.
{ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:5]، لماذا كررت { ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } ؟ قال فريق من أهل العلم: إنها كررت للتأكيد، أي: إن الأمر ليس كما تظنون، ثم إن الأمر ليس كما تظنون، بل هذا القرآن من عند الله منزل، والبعث آت لا شك فيه.
ومن أهل العلم من قال: إن كلا الأولى التي هي { كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } خاصة بالكفار، وقوله: { ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } خاصة بأهل الإيمان، وليس هناك دليل يدل على هذا القول.
ومن أهل العلم من قال: هذه الآيات { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } تعم المؤمنين والكفار، فمن المؤمنين من كان يسأل: متى الساعة يا رسول الله؟! أو أن المؤمنين يتبنون القول بأنها قائمة، والكفار يتبنون القول بأنها ليست قائمة، وهذا وجه آخر في التأويل.
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً .)
ثم بدأ الله في ذكر الأدلة على البعث، وهذا هو الذي رجح أن النبأ العظيم هو البعث، فقال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا } [النبأ:6]، أي: ألم نخلق الأرض ونمهدها كمهاد الطفل تفترشونها كما يفترش الطفل فراشه ويلتحف بلحافه؟! ألم نمهد الأرض فنجعلها ممهدة تمهيداً؟! { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ:7] الوتد هو: الشيء الذي يدق في الأرض، وتربط به الخيمة، وهو معلوم، فالجبال للأرض كالأوتاد، تثبت الأرض بها بإذن الله، قال الله: { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء:31]، أي: لئلا تميد بكم، فالجبال تثبت الأرض كما أن الأوتاد تثبت الأشياء.
فالله يستدل على البعث بقوله: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا } { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف، أي: خلقناكم أصنافاً، فمنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الصالح ومنكم الطالح، ومنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم الجميل ومنكم الدميم.
ومن العلماء من قال: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، أي: ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات:49]، ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [الفجر:3]، بقوله: (الشفع): الخلق، فكل شيء زوجان من الخلق، (والوتر) هو: الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر )، فقوله تعالى: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، لأهل العلم فيها تأويلان: التأويل الأول: أن المراد بالأزواج الأصناف.
التأويل الثاني: أن المراد بالأزواج الذكور والإناث.
ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه:131]، وأما قوله تعالى: { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف:12] فيشهد للمعنيين معاً، ففي قوله تعالى: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، قولان: الأول: ( أزواجاً ) أي: أصنافاً.
والثاني: ( أزواجاً ) أي: ذكراً وأنثى.
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } [النبأ:9] السبات هو: السكون والراحة، أي: وجعلنا نومكم راحة وسكوناً لأبدانكم، وهي مأخوذة من السبت، وأصل معنى السبت الراحة، فيوم السبت كان عند اليهود يوم الراحة، قال الله: { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } [الأعراف:163] .
الآيات.
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } [النبأ:10] شُبه الليل باللباس؛ لأنه يغطي الأشياء ويسترها كما يستر اللباس الأشياء، فالليل يسترك كما أن الثوب الذي تلبسه يسترك، والليل المظلم يسترك، فالظلام يستتر فيه الناس.
{ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ:11] تتعايشون فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } [القصص:71-73]، أي: في الليل، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } [القصص:73]، أي: في النهار.
فالأصل في الليل أنه للسكون والراحة، ومن ثم ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السمر بعد العشاء ) وكان يدعو لأمته أن يبارك الله لها في البكور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم بارك لأمتي في بكورها ) وهذا شيء ملموس، فإذا صليت الفجر في جماعة، وقلت أذكار الصباح بعد أذكار الصلاة، ثم بدأت عملك، بارك الله لك في يومك، أما أن تنام إلى ما قبل الظهر، فتذهب عليك البركة التي في الصباح، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينام بعد العشاء في الغالب إلا للضرورة.
قال الله جل ذكره: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } [النبأ:12] السبع الشداد هي السبع السماوات، ووصفت بأنها شداد لإحكامها، فهي محكمة إحكاماً شديداً كما قال سبحانه في الآيات الأُخر: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } [الذاريات:7] أي: السماء التي شد بعضها إلى بعض وحبكت، كما يقول القائل للذي يصلح النعال مثلاً: اُحْبُكِ الخيط، أي: شده بقوة، أو يقول لك قائل إذا رآك متشدداً مثلاً: لماذا أنت محبكها يا عم؟ فالسماء ذات الحبك أي: التي حبك بعضها إلى بعض، وشد بعضها إلى بعض، فأصبحت شديدة.
قال الله سبحانه وتعالى: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [النبأ:13]، السراج الوهاج هو المضيء، والمراد بالسراج الوهاج: الشمس.
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } [النبأ:14] المعصرات هي: السحب التي امتلأت بالماء وأوشك أن ينزل منها المطر، كما يقولون في المرأة التي أشرفت على الحيض: أعصرت أو قدم إعصارها، يعني: اقترب وقت نزول الحيض منها، فالمعصرات: السحب التي امتلأت ماءً وأوشك أن ينزل منها الماء.
ومن أهل العلم من قال: إن المعصرات هي الرياح، لكن الجمهور على أن المعصرات هي السحب الممتلئة بالماء التي أوشكت أن ينزل منها الماء.
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } [النبأ:14]، والثجاج هو المتتابع المتدفق، أي: ماء بعد ماء متتالٍ متتابع ينزل بشدة وبغزارة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أفضل الحج: العج، والثج ) وما هو العج، وما هو الثج؟ العج: الإكثار من التلبية، والثج: الإكثار من الذبح، بأن تذبح بقرة، وتذبح جملاً، وتذبح شاة، تكثر الذبح فهذا أفضل الحج، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ( نحر في حجته مائة بدنة من الإبل )، فمعنى الثج هو التتابع.
وفي حديث المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام -وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متكلم فيه- تسأله عن دم الاستحاضة، فقال لها: ( أنعت لكِ الكرسف ) -يعني: أصف لكِ القطن- أي: سدي الفرج بالقطن ليقف الدم، قالت: إنما أثج ثجّاً يا رسول الله! أي: القطن لا يستطيع أن يمسك هذا الدم، فإنه ينزل بغزارة تدفع القطن، وهذا معنى الثج.
قال الله تعالى: { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } [النبأ:15] وهذا من أدلة البعث، وسبق من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، وجعل النوم سباتاً.
وقوله: { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } ، هو: ما يقتات منه الناس كالبر مثلاً، وهي الغلة التي نسميها في بلادنا القمح، والذرة والرز وغير ذلك، والنبات هو ما يأكله الحيوان، وقد يأكل الناس بعضه أيضاً.
{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } [النبأ:16]، الجنات هي: الحدائق والبساتين التي كثرت فيها الأشجار وتشابكت حتى غطت من بداخلها لكثرة الأشجار فيها، فهذا التفسير اللغوي للجنة، وهو مأخوذ من تغطية الأشجار، وأي شيء يغطي يسمى جنة، قال تعالى: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } [الأنعام:76]، وجُنَّ فلان، أي: غطي على عقله.
فالجنة يطلق عليها جنة لكثرة أشجارها حتى تغطي الناس الذين فيها من كثرة ما فيها من خيرات، { أَلْفَافًا } ، أي: بساتين وحدائق أشجارها ملتفة.
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً .)
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } [النبأ:17]، كل هذه الأشياء ذكرت لإثبات البعث.
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } ، أي: وقتاً مؤقتاً للفصل بين العباد، وسيرون فيه عاقبة التكذيب الذي كذبوه.
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } [النبأ:18] الصور: قرن ينفخ فيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الصور: قرن ينفخ فيه )، أما قتادة فيرى أن الصور: الخلق.
والتأويل على قوله: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } ، أي: تنفخ الأرواح في الأجساد، وهذا المعنى دارج في عدة آيات من كتاب الله، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تأويل قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } [الفجر:27-29]، أي: ادخلي -أيتها الأرواح- في أجساد عبادي، وهذا تأويل عبد الله بن عباس ، واختاره ابن جرير الطبري ولم يحك غيره، قال الطبري في تأويل قوله تعالى: { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ، أي: ادخلي أيتها الأرواح التي خرجتِ من عبادي في الدنيا بعد أن ماتوا، وصعدتِ إلى السماء؛ ادخلي مرة ثانية في عبادي وذلك يوم البعث، واستدل لها بقراءة وردت في الآية: (فادخلي في عبدي) أي: ادخلي في جسد عبدي.
وكثير من العلماء قالوا: إن قوله تعالى: { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ، أي: ادخلي -يا أيتها النفس- في زمرة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلك عبادي الصالحين، وتنعمي معهم حيث يتنعمون، والله أعلم.
شاهدنا: أن قتادة قال: (الصور): الخلق، والمراد بالنفخ في الصور عند قتادة : أن تنفخ الأرواح في الأجساد، لكن التأويل الأصح هنا -وهو الذي عليه الأكثرون- أن المراد بالنفخ في الصور: هو نفخ إسرافيل في الصور، قال عليه الصلاة والسلام: ( كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر؟! ).
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } [النبأ:18]، الأفواج: الجماعات، جمع فوج.
وأفادت هذه الآية الكريمة أن الناس يأتون يوم القيامة أفواجاً، ونحوها قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [الزمر:73]، ونحوها أيضاً قوله تعالى في شأن قوم فرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [هود:98]، فكيف يجمع بين هذا الذي حاصله أن بني آدم يأتون يوم القيامة أفواجاً، وبين قوله تعالى: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:95]؟ تقدم مراراً أن دفع مثل هذا الإشكال يكون بما حاصله: أن يوم القيامة تتعدد فيه المواقف، فمقدار ألف سنة مما تعدون، ففي بعض الساعات يحصل فيها كذا، وبعض الساعات يحصل فيها شيء آخر، فعند العتاب: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:95]، ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) الحديث .
تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبواباً .)
قال تعالى: { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } [النبأ:19]، فهذه السماء التي قال الله عز وجل عنها: { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } [الملك:3] يعني: انظر إلى السماء بدقة وركز بصرك إلى السماء هل ترى فيها ثقباً واحداً؟ { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } .
فهذه السماء التي هي السبع الشداد خلقت على ما خلقت عليه الآن وليس فيها فروج كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق:6]، فيوم القيامة تفتح وتشقق، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } [الفرقان:25]، وينزل الملائكة الذين كانوا فيها وفوقها { وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } [الفرقان:25]، وكما قال تعالى: { وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [الحاقة:16]، فتتقطع السماء، وتتفتح السماء، وينزل من أبوابها الملائكة.
قال تعالى: { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } : قال فريق من العلماء أي: أبواباً لنزول الملائكة، ودليله قوله تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } .
{ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [النبأ:20] أي: أزيحت وأزيلت عن أماكنها، { فَكَانَتْ سَرَابًا } [النبأ:20] أي: كالسراب، والسراب هو: الشيء الذي يراه الناظر من بعيد فيظن أنه ماء وليس بماء، فالمسافر في الصحاري في وقت الظهيرة من شدة العطش ينظر إلى الأرض من بعيد فيظنها بحراً من الماء، فيأتي إليها وليس ثم ماء، فهذا هو السراب.
قال تعالى: { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } ، فالجبال تعتريها أمور، قال الله سبحانه وتعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف:47]، وقال تعالى: { وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة:14]، فتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وقال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } [طه:105]، وقال تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل:88].
فمن العلماء من قال: إن الجبال تسير عن أماكنها وتدك وتنسف، كما قال تعالى: { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } [الواقعة:5-6]، وبعدها تتطاير في الهواء، وتنسف نسفاً، والآيات التي ذكرت وصف الجبال يوم القيامة هي مراحل مرتبة، وليس عندنا دليل على كيفية الترتيب، هل ستكون هباءً منبثاً أولاً؟ أو تكون كالعهن المنفوش أولاً؟ أو تدك أولاً؟ لكن الظاهر أن الدك أولاً؛ لأن الدك يصحبه تفتت، وبعد التفتت تكون كما ذكر الله سبحانه وتعالى: { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } [المعارج:9]، أي: كالصوف، وبعدها كالعهن المنفوش، أي: الصوف المتطاير، إلى غير ذلك.
قال تعالى: { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } أي: عن أماكنها، فإذا نظرت إلى أماكنها تظن أن هناك جبالاً، ولكنها سراب لم يعد لها أثر.
صفة جهنم وما أعد فيها للكافرين
ثم قال تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } [النبأ:21]، ترصد أهلها، قال فريق من العلماء: إذا مروا عليها ترصدهم، ومن هذا أن ناساً يمرون على الصراط من أهل النار فجهنم تعرفهم، ليس كالكمين الذي على مداخل البلاد إذا مر شخص التقطه، فجهنم ترصد أهلها بدقة، وقد وصفها الله أنها ذات رصد.
{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } ، فمن العلماء من قال: ترصد أهلها إذا مروا عليها، فتأخذهم بكلابيب وحسك على الصراط كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المرور على الصراط.
ومنهم من قال: { كَانَتْ مِرْصَادًا } ، أي: كانت مرتقبة، يعني: منتظرة أهلها الآن.
{ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } [النبأ:22] جهنم ترصد الطغاة، وتنتظر موتهم، وتنتظر بعثهم، { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } ، لمن؟ قال تعالى: { لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } ، وهل هي للطاغين فقط أم يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقيناً أنه يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لحديث المفلس، ولقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران:130-131]، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الأنفال:15-16]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة متوافرة.
{ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } (مآباً) معناها: مرجعاً .
الرد على من قال بفناء النار
{ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } [النبأ:23] أي: ماكثين، وقد يتوهم متوهم من هذه الآية الكريمة أن النار لها أمد معدود ومعلوم، وستنتهي بعد هذا الأمد المعدود والمعلوم لقوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، وقد وقع في هذا الخلل عدد من العلماء، فزعموا أن النار ستفنى مستدلين بقوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، قالوا: وبعد الأحقاب فناء.
واستدلوا أيضاً في هذا الباب بقول الله تبارك وتعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود:106-107]، لكن أجاب عليهم جمهور أهل السنة من وجوه حاصلها: أنهم لو أمعنوا النظر في هذه الآية نفسها والآية التي بعدها لعلموا أن الصواب خلاف ما ذهبوا إليه، فالله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } [النبأ:23-24]، أي: في هذه الأحقاب، { إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [النبأ:25]، أي: طعامهم في هذه الأحقاب الحميم والغساق، { جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } [النبأ:26-30]، فوقت الأحقاب طعامهم الحميم والغساق، وبعد الأحقاب هل هناك تخفيف؟ الآية نفت ذلك فقال تعالى: { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } .
وأجاب أهل السنة على قوله تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود:107]، فقالوا: إن الله شاء ألا يخرجوا منها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف:77]، وقال تعالى: { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه:74]، وقال تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء:56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الموت يذبح على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت ).
والآيات في هذا الباب ترد على قائل هذا القول رداً شديداً، فالنار لا فناء لها، قال تعالى: { لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه:74] ، { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } [النساء:56]، { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر:48]، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [فاطر:36].
طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية
قال تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } في هذه الأحقاب ما هو طعامهم وما هو شرابهم؟ { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ، والبرد هو البرد المعهود الذي يبرد على القلوب والأبدان، وهذا قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن البرد هو النوم، واستدل ببيت من الشعر: بردت مراشفها عليَّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: النوم، إلا أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: وكتاب الله إنما يفسر على المعهود المشهور من كلام العرب، ولا يفسر على اللغات القليلة، وإن كان البرد من معانيه النوم، لكن يُفسَّر على الغالب الدارج في لغة العرب، فالبرد هو البرد المعهود.
{ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [النبأ:25]، والحميم هو: الماء الحار الذي بلغ النهاية في الحرارة، والغساق هو: البارد الذي بلغ النهاية في البرودة، فيشرب الكافر شيئاً ساخناً في غاية السخونة، قد بلغ أعلى درجات الحرارة، ثم يعقب بشيء بارد في غاية البرودة، عياذاً بالله.
قد يقول قائل: هنا قال تعالى: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ، وفي الآية الأخرى قال: { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } [الغاشية:6]، وفي الآية الثالثة قال: { وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ } [الحاقة:36-37]، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالإجابة: أنهم في أزمان معينة وفي أحقاب معينة لا يذوقون البرد والشراب، وفي أحقاب أخرى لا يذوقون إلا الغسلين الذي هو صديد أهل النار، وفي أوقات أخرى { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } ، وهو نبات ذو شوك، وهو أخبث أنواع النبات، ويكون يوم القيامة في جهنم، فهذه الأطعمة تتنوع أوقاتها، فوجبة لهم فيها غسلين، ووجبة لهم فيها طعام من ضريع، ووجبة { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } { إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } .
وقوله تعالى: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } { إِلَّا } هي هنا بمعنى: لكن، عند بعض العلماء، أي: لكن يذوقون الحميم والغساق، فالحميم والغساق ليس من البرد والشراب، فهو استثناء منقطع، من غير جنس المستثنى منه، فهذا الذي يسميه العلماء: استثناء منقطع، وهو الذي يصلح أن تدخل عليه أن، فيقال: لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا أنهم يذوقون الحميم والغساق، فإذا صلح أن يدخل عليه (أن) عند بعض اللغويين فهو استثناء منقطع.
والاستثناء المنقطع له أمثلة، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (وحضر القوم إلا حماراً) فالحمار ليس من جنس القوم، فهذه أمثلة للاستثناء المنقطع.
{ جَزَاءً وِفَاقًا } [النبأ:26]،أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة التي عملوها، فالجزاء من جنس العمل.
{ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } [النبأ:27].
(لا يرجون): من العلماء من قال في معناها: لا يخافون، واستدل بقوله تعالى حاكياً قول نوح لقومه: { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح:13]، أي: لا تخافون الله عز وجل، فمنهم من قال: إن المراد بالرجاء هنا الخوف، أي: لا يخافون حساباً على أعمالهم.
ومنهم من قال: { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } ، أي: لا يرجون ثواب الأعمال التي يعملونها، والقول الأول عليه الأكثر.
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } [النبأ:28]، أي: تكذيباً شديداً، { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } [النبأ:29] أي: كل شيء عملوه أحصي عليهم في كتاب، والآيات تؤيد هذا المعنى بكثرة، قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]، وقال تعالى: { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29]، وقال تعالى: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء:13-14]، وقال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18].
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } ، أي: عددناه وكتبناه كتاباً، { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } [النبأ:30].
وقيل: إن قوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، خاص بأهل القبلة، وهذا التأويل وإن كان في معناه صحيح، فإن من أهل القبلة من يمكث في النار أحقاباً ثم يخرج، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ( أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله ) إلا أن لفظ: الطغاة هنا يتنزل على الكافرين لقوله تعالى: { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } ، وهذا حال الكفار.
تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً)
أما حال أهل الإيمان فقال الله تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } [النبأ:31]، والمفاز من الفوز، وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وما هي صورة الفوز التي فازوا بها؟ قال تعالى: { حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } [النبأ:32]، فهذا هو الطعام، { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } [النبأ:33]، والكاعب من النساء هي: المرأة التي لم يتدل ثديها، والمرأة إذا تزوجت وحملت ووضعت أصبح ثديها متدلياً كما هو معلوم، لكن إذا كانت بكراً فيكون ثديها متماسكاً، فالكواعب من الأبكار، والبكر هي التي لم يتدل ثديها، ( أتراباً ) أي: أعمارهن واحدة.
{ وَكَأْسًا دِهَاقًا } [النبأ:34]، قال بعض العلماء: الدهاق هي الكأس الممتلئة، وقال آخرون: هي الكأس التي فيها شراب صافٍ.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } [النبأ:35].
من العلماء من قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } ، أي: في الجنة { لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } فليس هناك كلام لا فائدة فيه، وليس هناك تكذيب من شخص لشخص آخر في الجنة.
ومن العلماء من قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } ، أي: أثناء شربهم للكأس من الخمر كما هو حال أهل الدنيا، فإذا شرب رجل في الدنيا كأساً من الخمر فإنه يلغو ويسب ويكذب الناس ويكذبونه، كما حدث ذلك على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معلوم في قصة حمزة عندما شرب الخمر حتى ثمل وذلك قبل تحريم الخمر، فقال له الرسول: (لماذا صنعت هكذا؟) فنظر إلى الرسول من أعلى إلى أسفل وقال: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي!! فأهل الجنة لا يسمعون لغواً عند شربهم لكأس الخمر، فلا تذهب عقولهم، ولا يتقولون بكلام فيه لغو ولا تكذيب.
فهذان تأويلان لأهل العلم في هذه الآية، وهذه الآية كقوله تعالى: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا } [الواقعة:25-26].
{ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابَاً } [النبأ:36]، أي: على أعمالهم الصالحة.
{ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ:40]، أي: ينظر المرء ما عمل، ومن المراد بالمرء هنا؟ من العلماء من قال: إن المراد به المسلم، ودل على هذا التعقيب بالكافر.
ومنهم من قال: المرء عام، فكل امرئ ينظر ما قدمت يداه، والكافر لما يرى السوء الذي قدمته يداه يقول: { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } .
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } [النبأ:40]، من العلماء من قال: إن الكافر يقول: { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } عندما يرى البهائم قد تحولت إلى تراب، ولم يرد بهذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمت، لكن البهائم تحشر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) كما في صحيح مسلم ، لكن من العلماء من قال: تحشر ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فحينئذٍ يقول الكافر { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } ، وهذا القول الأخير هو قول جمهور المفسرين، لكن لم نقف في ذلك على خبر ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.
متجدد ان شاء الله
اليوم إخواني الكرام سنقوم بعمل سلسلة لتفسير القرآن الكريم
وسنقوم بالبدأ بجزء عم
بسم الله توكلت على الله
تفسير سورة النبأ
ذكر الله تعالى في هذه السورة العظيمة أدلة البعث الأربعة، ثم ذكر حال الكافرين في جهنم، وذكر حال المؤمنين في الجنة، ورغب في الإنابة إلى الله تعالى، وختمها بالإخبار أن كل امرئ سيرى ما قدمت يداه في هذه الدنيا، وعند ذلك يتحسر الكافر على ما فرط أشد التحسر حتى إنه يتمنى أنه كان تراباً، فما أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من المعاني الجليلة، والأصول الكبيرة، والمواعظ البليغة.
تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم )
فمن أطلق عليها سورة النبأ فلذكر النبأ فيها، ومن أطلق عليها عمَّ فلابتدائها بكلمة ( عمَّ ).
قوله تعالى: { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } [النبأ:1]، ( عمَّ ) أصلها: عن ما، أي: عن ماذا، فهي مركبة من كلمتين: عن وما، فأدمجت النون في الميم وقيل: عمَّ، كقولهم: مما، فهي كلمتان: من ما، { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } أي: عن أي شيء يتساءلون؟ و { يَتَسَاءَلُونَ } معناها: يسأل بعضهم بعضاً، ومن هم الذين يتساءلون؟ كثيرٌ من أهل العلم يقولون: إن الذين يتساءلون هم المشركون، فالمشركون هم الذين يتساءلون.
ويتساءلون عن ماذا؟ أجيب على هذا السؤال في الآية التي تليها، إن سألت -يا محمد- عن أي شيء يتساءلون، فاعلم أنهم يتساءلون { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } [النبأ:2]، فهذا تأويل هذه الآية.
وقد قيل: إن المراد بالنبأ العظيم هو البعث بعد الموت، وهذا رأي جمهور المفسرين.
وقال فريق آخر من أهل العلم: إن النبأ العظيم هو القرآن، واستدل لهذا القول الثاني بقوله تعالى: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ص:67-68]، ومن العلماء من قال: إن النبأ العظيم هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإرساله إليهم.
فهذه ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير النبأ العظيم، وكل قول منها قال به بعض العلماء، والذي عليه الجمهور: أن النبأ العظيم هو: البعث بعد الموت، والمراد بالنبأ الخبر، فعلى هذا يكون تأويل الآيات، عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً؟ إن سألت عن ذلك -يا محمد- فاعلم أنهم يتساءلون { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } [النبأ:2-3].
إن قال قائل: ذكرتم أن الذين يتساءلون -كما هو رأي أكثر العلماء- هم المشركون، فهل المشركون مختلفون في النبأ العظيم لأن الله تعالى قال: { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ فهل المشركون يختلفون في البعث؟ والمعهود أن المشركين ينكرون البعث! فلماذا اختلفوا؟ وما هو وجه اختلافهم هنا؟ فالإجابة: أن المشركين لم يكونوا جميعاً مطبقين على أن البعث غير آت، بل كان منهم من يقر بالبعث، ومنهم من كان يتشكك في أمره، ومنهم من كان ينفيه بالكلية، فطوائف النصارى يقرون بالبعث، لكن البعث عندهم له صفات أخر، وأحداث أخر غير البعث الذي يعتقده أهل الإسلام، وكذلك طوائف من اليهود، فإنهم يقولون: { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة:80]، وهذا يفيد أنهم يقرون بالبعث، لكن له صفة معينة عندهم.
أما الذين يتشككون في أمر البعث، فكما حكى الله مقالتهم في قوله: { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت:50]، وقال حاكياً عن بعضهم: { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا } [الكهف:36]، أي: على فرض أن هناك بعثاً، فهذا الكافر يقول: لئن رددت إلى ربي فإنه قد أكرمني في الدنيا، فسيكرمني بكرامة أكبر منها في الآخرة.
وقال تعالى: { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } [النمل:66]، فكانت هناك طوائف تثبت البعث، لكن على صفات أخر، وطوائف تتشكك في أمر البعث، وطوائف تنفي البعث مطلقاً، كما قال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:78-79]، وقال الله سبحانه وتعالى: { بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:2-3]، فكانت طائفة منهم تنكر البعث، فهذه أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تفسير النبأ العظيم بأنه البعث بعد الموت.
أما على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فأوجه خلافهم فيه على النحو التالي: منهم من يقول: إنه { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، أي: هو قصص من قصص اليهود كتبها أو اكتتبها وكتبها له شخص آخر، (تملى عليه بكرة وأصيلاً) كما هو مسطر في كتب اليهود، فاليهود يقولون: إن هذا القرآن من تعليم عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عمى بصائرهم أن ابن سلام لم يسلم إلا في المدينة، وكثير جداً من آيات الكتاب العزيز نزلت على رسول الله بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى رجل من الموالي بمكة، فطعن الكافرون في القرآن وقالوا: إن هذا الرجل هو الذي يلقن الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [النحل:103] أي: الرجل الذي يميلون إلى أنه علم الرسول، { أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:103].
فهذا وجه من أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فطائفة منهم تقول: هو { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، ومنهم من قال: إنه قول ساحر، ومنهم من قال: إنه قول كاهن، إلى غير ذلك من الأقوال.
أدلة البعث في القرآن
والذي يرجح أن النبأ العظيم هو البعث بعد الموت أن أدلة البعث الأربعة ذكرت في هذه السورة؛ لأن أدلة البعث التي يستدل بها الله في كتابه على البعث تدور على أربعة أشياء، وتتكرر في سور القرآن بأساليب متنوعة، ويصرفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بسياقات متعددة، وبراهين البعث الأربعة وأدلة البعث الأربعة تدور على الآتي: الدليل الأول من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، فيستدل بخلق السماوات والأرض على البعث، ووجه هذا الاستدلال: أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر:57]، فالذي خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر، إذا كان الله خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق من هو أدنى وأقل من السماوات والأرض، قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر:57].
وهذا الدليل يتصرف بعدة أساليب، والمعنى ثابت، فيأتي هذا المعنى في سياقات متنوعة ومتعددة، في خلال قصص، وفي خلال آيات التذكير، وكله ينصب على هذا المعنى: السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالذي خلقها قادر على أن يخلق الناس، والأدلة على هذا في كتاب الله متعددة: كقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:78-79]، إلى قوله: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس:81]، وكذلك في مطلع سورة (ق) قال الله حاكياً عن المشركين: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:3]، يقول تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق:4-7]، فلما أنكروا البعث -كما في سورة ق- استدل على البعث بخلق السماوات والأرض قال تعالى حاكياً مقالتهم: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق:3]، فيقول تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } [ق:4-7] الآيات.
ونحو هذا في سورة الغاشية: { وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية:18-20]، فكلها آيات تدور على هذا الشيء، فهذا أول استدلال على البعث ألا وهو الاستدلال بخلق السماوات وخلق الأرض.
والدليل الثاني على البعث: يكون بالاستدلال على إحياء بعض الأنفس بعد موتها، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله عنه: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:260]، وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [البقرة:243]، وقال تعالى: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة:73]، وقال تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [البقرة:259].
وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفي سورة عمَّ شيء مشابه لهذا، ألا وهو: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } [النبأ:9]، فالنوم موت كما قال الله: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر:42]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) فهذا وجه الدليل الثاني على البعث.
الدليل الثالث على البعث هو: إحياء الأرض بعد موتها، ويذكره الله في كتابه بعدة أساليب، كقوله: { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج:5-6]، فالذي أحيا الأرض بعد موتها سيحيي الموتى أيضاً، فهذا الاستدلال الثالث على البعث وهو: إحياء الأرض بعد موتها.
الدليل الرابع على البعث: الخلق الأول، وهو الاستدلال على البعث بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يعيد خلقك، فالذي صنع شيئاً أول مرة قادر على إعادة صنع هذا الشيء مرة أخرى، كما قال تعالى: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق:15]، أي: أفأتعبنا وأرهقنا الخلق الأول حتى يتشككوا في البعث؟! فهذه أربعة أدلة على البعث ومضامينها مذكورة في سورة عمَّ، وهذا هو الذي رجح أن المراد بالنبأ العظيم البعث بعد الموت، وسيأتي الكلام عليها واحداً واحداً إن شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (كلا سيعلمون .)
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:4]، (كلا) كلمة: ردع وزجر ونفي لمعنىً متقدم، فمثلاً: قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا } [عبس:1-11]، فكلا هنا معناها: وليس الأمر كما تصرفت يا محمد! ليس التصرف الصحيح هو الذي تصرفته في هذا المقام.
فكلا نفي للتصرف الذي تقدم، وللظن الذي تقدم، فكلا أحياناً تتضمن معنى الردع والزجر، فهنا قال تعالى: (كَلَّا)، أي: ليس الأمر كما ظننتم أنه ليس هناك بعث، وليس الأمر كما توهمتم أن محمداً ساحر، وليس الأمر كما توهمتم أنها: { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:5]، فهذا الظن ظن خاطئ، { سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:4] أن ظنهم خاطئ، وأن قولهم في غير محله.
{ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } [النبأ:5]، لماذا كررت { ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } ؟ قال فريق من أهل العلم: إنها كررت للتأكيد، أي: إن الأمر ليس كما تظنون، ثم إن الأمر ليس كما تظنون، بل هذا القرآن من عند الله منزل، والبعث آت لا شك فيه.
ومن أهل العلم من قال: إن كلا الأولى التي هي { كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } خاصة بالكفار، وقوله: { ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } خاصة بأهل الإيمان، وليس هناك دليل يدل على هذا القول.
ومن أهل العلم من قال: هذه الآيات { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } تعم المؤمنين والكفار، فمن المؤمنين من كان يسأل: متى الساعة يا رسول الله؟! أو أن المؤمنين يتبنون القول بأنها قائمة، والكفار يتبنون القول بأنها ليست قائمة، وهذا وجه آخر في التأويل.
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً .)
ثم بدأ الله في ذكر الأدلة على البعث، وهذا هو الذي رجح أن النبأ العظيم هو البعث، فقال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا } [النبأ:6]، أي: ألم نخلق الأرض ونمهدها كمهاد الطفل تفترشونها كما يفترش الطفل فراشه ويلتحف بلحافه؟! ألم نمهد الأرض فنجعلها ممهدة تمهيداً؟! { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ:7] الوتد هو: الشيء الذي يدق في الأرض، وتربط به الخيمة، وهو معلوم، فالجبال للأرض كالأوتاد، تثبت الأرض بها بإذن الله، قال الله: { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء:31]، أي: لئلا تميد بكم، فالجبال تثبت الأرض كما أن الأوتاد تثبت الأشياء.
فالله يستدل على البعث بقوله: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا } { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف، أي: خلقناكم أصنافاً، فمنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الصالح ومنكم الطالح، ومنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم الجميل ومنكم الدميم.
ومن العلماء من قال: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، أي: ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات:49]، ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [الفجر:3]، بقوله: (الشفع): الخلق، فكل شيء زوجان من الخلق، (والوتر) هو: الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر )، فقوله تعالى: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، لأهل العلم فيها تأويلان: التأويل الأول: أن المراد بالأزواج الأصناف.
التأويل الثاني: أن المراد بالأزواج الذكور والإناث.
ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه:131]، وأما قوله تعالى: { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف:12] فيشهد للمعنيين معاً، ففي قوله تعالى: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ، قولان: الأول: ( أزواجاً ) أي: أصنافاً.
والثاني: ( أزواجاً ) أي: ذكراً وأنثى.
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } [النبأ:9] السبات هو: السكون والراحة، أي: وجعلنا نومكم راحة وسكوناً لأبدانكم، وهي مأخوذة من السبت، وأصل معنى السبت الراحة، فيوم السبت كان عند اليهود يوم الراحة، قال الله: { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } [الأعراف:163] .
الآيات.
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } [النبأ:10] شُبه الليل باللباس؛ لأنه يغطي الأشياء ويسترها كما يستر اللباس الأشياء، فالليل يسترك كما أن الثوب الذي تلبسه يسترك، والليل المظلم يسترك، فالظلام يستتر فيه الناس.
{ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ:11] تتعايشون فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } [القصص:71-73]، أي: في الليل، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } [القصص:73]، أي: في النهار.
فالأصل في الليل أنه للسكون والراحة، ومن ثم ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السمر بعد العشاء ) وكان يدعو لأمته أن يبارك الله لها في البكور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم بارك لأمتي في بكورها ) وهذا شيء ملموس، فإذا صليت الفجر في جماعة، وقلت أذكار الصباح بعد أذكار الصلاة، ثم بدأت عملك، بارك الله لك في يومك، أما أن تنام إلى ما قبل الظهر، فتذهب عليك البركة التي في الصباح، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينام بعد العشاء في الغالب إلا للضرورة.
قال الله جل ذكره: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } [النبأ:12] السبع الشداد هي السبع السماوات، ووصفت بأنها شداد لإحكامها، فهي محكمة إحكاماً شديداً كما قال سبحانه في الآيات الأُخر: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } [الذاريات:7] أي: السماء التي شد بعضها إلى بعض وحبكت، كما يقول القائل للذي يصلح النعال مثلاً: اُحْبُكِ الخيط، أي: شده بقوة، أو يقول لك قائل إذا رآك متشدداً مثلاً: لماذا أنت محبكها يا عم؟ فالسماء ذات الحبك أي: التي حبك بعضها إلى بعض، وشد بعضها إلى بعض، فأصبحت شديدة.
قال الله سبحانه وتعالى: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [النبأ:13]، السراج الوهاج هو المضيء، والمراد بالسراج الوهاج: الشمس.
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } [النبأ:14] المعصرات هي: السحب التي امتلأت بالماء وأوشك أن ينزل منها المطر، كما يقولون في المرأة التي أشرفت على الحيض: أعصرت أو قدم إعصارها، يعني: اقترب وقت نزول الحيض منها، فالمعصرات: السحب التي امتلأت ماءً وأوشك أن ينزل منها الماء.
ومن أهل العلم من قال: إن المعصرات هي الرياح، لكن الجمهور على أن المعصرات هي السحب الممتلئة بالماء التي أوشكت أن ينزل منها الماء.
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } [النبأ:14]، والثجاج هو المتتابع المتدفق، أي: ماء بعد ماء متتالٍ متتابع ينزل بشدة وبغزارة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أفضل الحج: العج، والثج ) وما هو العج، وما هو الثج؟ العج: الإكثار من التلبية، والثج: الإكثار من الذبح، بأن تذبح بقرة، وتذبح جملاً، وتذبح شاة، تكثر الذبح فهذا أفضل الحج، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ( نحر في حجته مائة بدنة من الإبل )، فمعنى الثج هو التتابع.
وفي حديث المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام -وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متكلم فيه- تسأله عن دم الاستحاضة، فقال لها: ( أنعت لكِ الكرسف ) -يعني: أصف لكِ القطن- أي: سدي الفرج بالقطن ليقف الدم، قالت: إنما أثج ثجّاً يا رسول الله! أي: القطن لا يستطيع أن يمسك هذا الدم، فإنه ينزل بغزارة تدفع القطن، وهذا معنى الثج.
قال الله تعالى: { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } [النبأ:15] وهذا من أدلة البعث، وسبق من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، وجعل النوم سباتاً.
وقوله: { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } ، هو: ما يقتات منه الناس كالبر مثلاً، وهي الغلة التي نسميها في بلادنا القمح، والذرة والرز وغير ذلك، والنبات هو ما يأكله الحيوان، وقد يأكل الناس بعضه أيضاً.
{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } [النبأ:16]، الجنات هي: الحدائق والبساتين التي كثرت فيها الأشجار وتشابكت حتى غطت من بداخلها لكثرة الأشجار فيها، فهذا التفسير اللغوي للجنة، وهو مأخوذ من تغطية الأشجار، وأي شيء يغطي يسمى جنة، قال تعالى: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } [الأنعام:76]، وجُنَّ فلان، أي: غطي على عقله.
فالجنة يطلق عليها جنة لكثرة أشجارها حتى تغطي الناس الذين فيها من كثرة ما فيها من خيرات، { أَلْفَافًا } ، أي: بساتين وحدائق أشجارها ملتفة.
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً .)
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } [النبأ:17]، كل هذه الأشياء ذكرت لإثبات البعث.
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } ، أي: وقتاً مؤقتاً للفصل بين العباد، وسيرون فيه عاقبة التكذيب الذي كذبوه.
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } [النبأ:18] الصور: قرن ينفخ فيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الصور: قرن ينفخ فيه )، أما قتادة فيرى أن الصور: الخلق.
والتأويل على قوله: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } ، أي: تنفخ الأرواح في الأجساد، وهذا المعنى دارج في عدة آيات من كتاب الله، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تأويل قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } [الفجر:27-29]، أي: ادخلي -أيتها الأرواح- في أجساد عبادي، وهذا تأويل عبد الله بن عباس ، واختاره ابن جرير الطبري ولم يحك غيره، قال الطبري في تأويل قوله تعالى: { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ، أي: ادخلي أيتها الأرواح التي خرجتِ من عبادي في الدنيا بعد أن ماتوا، وصعدتِ إلى السماء؛ ادخلي مرة ثانية في عبادي وذلك يوم البعث، واستدل لها بقراءة وردت في الآية: (فادخلي في عبدي) أي: ادخلي في جسد عبدي.
وكثير من العلماء قالوا: إن قوله تعالى: { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ، أي: ادخلي -يا أيتها النفس- في زمرة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلك عبادي الصالحين، وتنعمي معهم حيث يتنعمون، والله أعلم.
شاهدنا: أن قتادة قال: (الصور): الخلق، والمراد بالنفخ في الصور عند قتادة : أن تنفخ الأرواح في الأجساد، لكن التأويل الأصح هنا -وهو الذي عليه الأكثرون- أن المراد بالنفخ في الصور: هو نفخ إسرافيل في الصور، قال عليه الصلاة والسلام: ( كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر؟! ).
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } [النبأ:18]، الأفواج: الجماعات، جمع فوج.
وأفادت هذه الآية الكريمة أن الناس يأتون يوم القيامة أفواجاً، ونحوها قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [الزمر:73]، ونحوها أيضاً قوله تعالى في شأن قوم فرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [هود:98]، فكيف يجمع بين هذا الذي حاصله أن بني آدم يأتون يوم القيامة أفواجاً، وبين قوله تعالى: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:95]؟ تقدم مراراً أن دفع مثل هذا الإشكال يكون بما حاصله: أن يوم القيامة تتعدد فيه المواقف، فمقدار ألف سنة مما تعدون، ففي بعض الساعات يحصل فيها كذا، وبعض الساعات يحصل فيها شيء آخر، فعند العتاب: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:95]، ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) الحديث .
تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبواباً .)
قال تعالى: { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } [النبأ:19]، فهذه السماء التي قال الله عز وجل عنها: { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } [الملك:3] يعني: انظر إلى السماء بدقة وركز بصرك إلى السماء هل ترى فيها ثقباً واحداً؟ { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } .
فهذه السماء التي هي السبع الشداد خلقت على ما خلقت عليه الآن وليس فيها فروج كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق:6]، فيوم القيامة تفتح وتشقق، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } [الفرقان:25]، وينزل الملائكة الذين كانوا فيها وفوقها { وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } [الفرقان:25]، وكما قال تعالى: { وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [الحاقة:16]، فتتقطع السماء، وتتفتح السماء، وينزل من أبوابها الملائكة.
قال تعالى: { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } : قال فريق من العلماء أي: أبواباً لنزول الملائكة، ودليله قوله تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } .
{ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [النبأ:20] أي: أزيحت وأزيلت عن أماكنها، { فَكَانَتْ سَرَابًا } [النبأ:20] أي: كالسراب، والسراب هو: الشيء الذي يراه الناظر من بعيد فيظن أنه ماء وليس بماء، فالمسافر في الصحاري في وقت الظهيرة من شدة العطش ينظر إلى الأرض من بعيد فيظنها بحراً من الماء، فيأتي إليها وليس ثم ماء، فهذا هو السراب.
قال تعالى: { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } ، فالجبال تعتريها أمور، قال الله سبحانه وتعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف:47]، وقال تعالى: { وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة:14]، فتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وقال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } [طه:105]، وقال تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل:88].
فمن العلماء من قال: إن الجبال تسير عن أماكنها وتدك وتنسف، كما قال تعالى: { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } [الواقعة:5-6]، وبعدها تتطاير في الهواء، وتنسف نسفاً، والآيات التي ذكرت وصف الجبال يوم القيامة هي مراحل مرتبة، وليس عندنا دليل على كيفية الترتيب، هل ستكون هباءً منبثاً أولاً؟ أو تكون كالعهن المنفوش أولاً؟ أو تدك أولاً؟ لكن الظاهر أن الدك أولاً؛ لأن الدك يصحبه تفتت، وبعد التفتت تكون كما ذكر الله سبحانه وتعالى: { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } [المعارج:9]، أي: كالصوف، وبعدها كالعهن المنفوش، أي: الصوف المتطاير، إلى غير ذلك.
قال تعالى: { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } أي: عن أماكنها، فإذا نظرت إلى أماكنها تظن أن هناك جبالاً، ولكنها سراب لم يعد لها أثر.
صفة جهنم وما أعد فيها للكافرين
ثم قال تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } [النبأ:21]، ترصد أهلها، قال فريق من العلماء: إذا مروا عليها ترصدهم، ومن هذا أن ناساً يمرون على الصراط من أهل النار فجهنم تعرفهم، ليس كالكمين الذي على مداخل البلاد إذا مر شخص التقطه، فجهنم ترصد أهلها بدقة، وقد وصفها الله أنها ذات رصد.
{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } ، فمن العلماء من قال: ترصد أهلها إذا مروا عليها، فتأخذهم بكلابيب وحسك على الصراط كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المرور على الصراط.
ومنهم من قال: { كَانَتْ مِرْصَادًا } ، أي: كانت مرتقبة، يعني: منتظرة أهلها الآن.
{ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } [النبأ:22] جهنم ترصد الطغاة، وتنتظر موتهم، وتنتظر بعثهم، { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } ، لمن؟ قال تعالى: { لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } ، وهل هي للطاغين فقط أم يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقيناً أنه يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لحديث المفلس، ولقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران:130-131]، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الأنفال:15-16]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة متوافرة.
{ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا } (مآباً) معناها: مرجعاً .
الرد على من قال بفناء النار
{ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } [النبأ:23] أي: ماكثين، وقد يتوهم متوهم من هذه الآية الكريمة أن النار لها أمد معدود ومعلوم، وستنتهي بعد هذا الأمد المعدود والمعلوم لقوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، وقد وقع في هذا الخلل عدد من العلماء، فزعموا أن النار ستفنى مستدلين بقوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، قالوا: وبعد الأحقاب فناء.
واستدلوا أيضاً في هذا الباب بقول الله تبارك وتعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود:106-107]، لكن أجاب عليهم جمهور أهل السنة من وجوه حاصلها: أنهم لو أمعنوا النظر في هذه الآية نفسها والآية التي بعدها لعلموا أن الصواب خلاف ما ذهبوا إليه، فالله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } [النبأ:23-24]، أي: في هذه الأحقاب، { إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [النبأ:25]، أي: طعامهم في هذه الأحقاب الحميم والغساق، { جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } [النبأ:26-30]، فوقت الأحقاب طعامهم الحميم والغساق، وبعد الأحقاب هل هناك تخفيف؟ الآية نفت ذلك فقال تعالى: { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } .
وأجاب أهل السنة على قوله تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود:107]، فقالوا: إن الله شاء ألا يخرجوا منها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف:77]، وقال تعالى: { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه:74]، وقال تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء:56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الموت يذبح على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت ).
والآيات في هذا الباب ترد على قائل هذا القول رداً شديداً، فالنار لا فناء لها، قال تعالى: { لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه:74] ، { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } [النساء:56]، { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر:48]، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [فاطر:36].
طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية
قال تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } في هذه الأحقاب ما هو طعامهم وما هو شرابهم؟ { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ، والبرد هو البرد المعهود الذي يبرد على القلوب والأبدان، وهذا قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن البرد هو النوم، واستدل ببيت من الشعر: بردت مراشفها عليَّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: النوم، إلا أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: وكتاب الله إنما يفسر على المعهود المشهور من كلام العرب، ولا يفسر على اللغات القليلة، وإن كان البرد من معانيه النوم، لكن يُفسَّر على الغالب الدارج في لغة العرب، فالبرد هو البرد المعهود.
{ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [النبأ:25]، والحميم هو: الماء الحار الذي بلغ النهاية في الحرارة، والغساق هو: البارد الذي بلغ النهاية في البرودة، فيشرب الكافر شيئاً ساخناً في غاية السخونة، قد بلغ أعلى درجات الحرارة، ثم يعقب بشيء بارد في غاية البرودة، عياذاً بالله.
قد يقول قائل: هنا قال تعالى: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ، وفي الآية الأخرى قال: { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } [الغاشية:6]، وفي الآية الثالثة قال: { وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ } [الحاقة:36-37]، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالإجابة: أنهم في أزمان معينة وفي أحقاب معينة لا يذوقون البرد والشراب، وفي أحقاب أخرى لا يذوقون إلا الغسلين الذي هو صديد أهل النار، وفي أوقات أخرى { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } ، وهو نبات ذو شوك، وهو أخبث أنواع النبات، ويكون يوم القيامة في جهنم، فهذه الأطعمة تتنوع أوقاتها، فوجبة لهم فيها غسلين، ووجبة لهم فيها طعام من ضريع، ووجبة { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } { إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } .
وقوله تعالى: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } { إِلَّا } هي هنا بمعنى: لكن، عند بعض العلماء، أي: لكن يذوقون الحميم والغساق، فالحميم والغساق ليس من البرد والشراب، فهو استثناء منقطع، من غير جنس المستثنى منه، فهذا الذي يسميه العلماء: استثناء منقطع، وهو الذي يصلح أن تدخل عليه أن، فيقال: لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا أنهم يذوقون الحميم والغساق، فإذا صلح أن يدخل عليه (أن) عند بعض اللغويين فهو استثناء منقطع.
والاستثناء المنقطع له أمثلة، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (وحضر القوم إلا حماراً) فالحمار ليس من جنس القوم، فهذه أمثلة للاستثناء المنقطع.
{ جَزَاءً وِفَاقًا } [النبأ:26]،أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة التي عملوها، فالجزاء من جنس العمل.
{ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } [النبأ:27].
(لا يرجون): من العلماء من قال في معناها: لا يخافون، واستدل بقوله تعالى حاكياً قول نوح لقومه: { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح:13]، أي: لا تخافون الله عز وجل، فمنهم من قال: إن المراد بالرجاء هنا الخوف، أي: لا يخافون حساباً على أعمالهم.
ومنهم من قال: { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } ، أي: لا يرجون ثواب الأعمال التي يعملونها، والقول الأول عليه الأكثر.
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } [النبأ:28]، أي: تكذيباً شديداً، { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } [النبأ:29] أي: كل شيء عملوه أحصي عليهم في كتاب، والآيات تؤيد هذا المعنى بكثرة، قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]، وقال تعالى: { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29]، وقال تعالى: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء:13-14]، وقال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18].
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } ، أي: عددناه وكتبناه كتاباً، { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } [النبأ:30].
وقيل: إن قوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ، خاص بأهل القبلة، وهذا التأويل وإن كان في معناه صحيح، فإن من أهل القبلة من يمكث في النار أحقاباً ثم يخرج، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ( أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله ) إلا أن لفظ: الطغاة هنا يتنزل على الكافرين لقوله تعالى: { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } ، وهذا حال الكفار.
تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً)
أما حال أهل الإيمان فقال الله تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } [النبأ:31]، والمفاز من الفوز، وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وما هي صورة الفوز التي فازوا بها؟ قال تعالى: { حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } [النبأ:32]، فهذا هو الطعام، { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } [النبأ:33]، والكاعب من النساء هي: المرأة التي لم يتدل ثديها، والمرأة إذا تزوجت وحملت ووضعت أصبح ثديها متدلياً كما هو معلوم، لكن إذا كانت بكراً فيكون ثديها متماسكاً، فالكواعب من الأبكار، والبكر هي التي لم يتدل ثديها، ( أتراباً ) أي: أعمارهن واحدة.
{ وَكَأْسًا دِهَاقًا } [النبأ:34]، قال بعض العلماء: الدهاق هي الكأس الممتلئة، وقال آخرون: هي الكأس التي فيها شراب صافٍ.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } [النبأ:35].
من العلماء من قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } ، أي: في الجنة { لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } فليس هناك كلام لا فائدة فيه، وليس هناك تكذيب من شخص لشخص آخر في الجنة.
ومن العلماء من قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } ، أي: أثناء شربهم للكأس من الخمر كما هو حال أهل الدنيا، فإذا شرب رجل في الدنيا كأساً من الخمر فإنه يلغو ويسب ويكذب الناس ويكذبونه، كما حدث ذلك على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معلوم في قصة حمزة عندما شرب الخمر حتى ثمل وذلك قبل تحريم الخمر، فقال له الرسول: (لماذا صنعت هكذا؟) فنظر إلى الرسول من أعلى إلى أسفل وقال: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي!! فأهل الجنة لا يسمعون لغواً عند شربهم لكأس الخمر، فلا تذهب عقولهم، ولا يتقولون بكلام فيه لغو ولا تكذيب.
فهذان تأويلان لأهل العلم في هذه الآية، وهذه الآية كقوله تعالى: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا } [الواقعة:25-26].
{ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابَاً } [النبأ:36]، أي: على أعمالهم الصالحة.
{ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ:40]، أي: ينظر المرء ما عمل، ومن المراد بالمرء هنا؟ من العلماء من قال: إن المراد به المسلم، ودل على هذا التعقيب بالكافر.
ومنهم من قال: المرء عام، فكل امرئ ينظر ما قدمت يداه، والكافر لما يرى السوء الذي قدمته يداه يقول: { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } .
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } [النبأ:40]، من العلماء من قال: إن الكافر يقول: { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } عندما يرى البهائم قد تحولت إلى تراب، ولم يرد بهذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمت، لكن البهائم تحشر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) كما في صحيح مسلم ، لكن من العلماء من قال: تحشر ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فحينئذٍ يقول الكافر { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } ، وهذا القول الأخير هو قول جمهور المفسرين، لكن لم نقف في ذلك على خبر ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.
متجدد ان شاء الله
الثلاثاء أغسطس 27, 2013 10:10 am من طرف سوس
» طريقه وضع توقيع فلاش
الجمعة يوليو 05, 2013 11:57 am من طرف fidou
» صيام ثلاثة أيام= صيام السنة كلها
الجمعة يوليو 05, 2013 10:56 am من طرف fidou
» ولا ذبابة.. !
الجمعة يوليو 05, 2013 10:52 am من طرف fidou
» يستحق الحب .. إنه نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
الجمعة يوليو 05, 2013 10:51 am من طرف fidou
» محفظ ٌ قرآن معتمد أونلاين
الجمعة يوليو 05, 2013 10:47 am من طرف fidou
» فضائل شهر رمضان
الجمعة يوليو 05, 2013 10:26 am من طرف fidou
» هل تريد النصر؟
الإثنين سبتمبر 10, 2012 8:40 pm من طرف أم محمود
» إجازة معتمده فى القراءات العشر عبر النت
الجمعة يونيو 29, 2012 12:03 am من طرف إجازه معتمده اونلاين
» اسرع إجازة عبر الإنترنت فى شهر متصلة السند بالرسول
الخميس يونيو 28, 2012 11:40 pm من طرف إجازه معتمده اونلاين
» منتديات دروبي عالمي الأسلأمي الدعوية اريد ان ادعوكم للمنتدايhttp://rfiaaildilrarb.7olm.org/
الإثنين يونيو 25, 2012 3:29 am من طرف ناصر السنة
» .~* وَسَقَطَت وَرِقه مَن شَجَرَة الْعُمُر *~.
الثلاثاء يونيو 19, 2012 10:09 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» !الأب مشغول..والأم فى الأسواق!
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:53 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ...حب دينك سبب ثباتك عليه...
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:28 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» حاسـوبي الأفضـل بين الحواسيب
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:03 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ! رساله الى أصحاب الوجوه العابسه !
الثلاثاء يونيو 19, 2012 8:52 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» صيام الأيام البيض لشهر رجب 1433
الجمعة يونيو 01, 2012 3:16 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر جمادى الاخرة 1433
الخميس مايو 03, 2012 3:49 am من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لهذا الشهر ربيع الثاني 1433
الإثنين مارس 05, 2012 3:20 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر ربيع الأول 1433
السبت فبراير 04, 2012 2:16 pm من طرف انور ابو البصل
» حلول قساوة القلوب
السبت يناير 28, 2012 1:29 pm من طرف انور ابو البصل
» لمن يريد دعوة شخص أجنبي للإسلام
السبت يناير 28, 2012 1:56 am من طرف الكعبة روحى
» علاج السرحان في الصلاة
السبت يناير 14, 2012 7:08 pm من طرف wegdan
» اسماء وصفات الله عز وجل
الخميس يناير 12, 2012 3:30 pm من طرف ا.عمرو
» اجعل الله همك يكفك ما اهمك
الخميس يناير 12, 2012 1:49 pm من طرف wegdan
» روائع الكلام
الخميس يناير 12, 2012 12:18 am من طرف ا.عمرو
» العبرة بالنهاية
الأربعاء يناير 11, 2012 7:06 pm من طرف ابومحمودعماد محمود
» مخطط جورج سوروس الذي يدافع عنه البرادعي لاختطاف الثورة المصرية
السبت يناير 07, 2012 9:27 am من طرف ا.عمرو