الأمل ونهضة الأمة:
ها هو أمل ينهض بأمة كاملة، يستدعى السلطان نور الدين محمود رحمه الله تعالى أمهر النجارين في السلطنة ثم يأمرهم بتصميم وبناء أفخم وأعظم منبر بني تشهد الخلائق بعظمته، وانطلق النجارون في البناء أيامًا تجر أيامًا، وشهورًا خلف أخرى، والسلطان يشرف بنفسه كلما أمكنته الراحة ما بين معركة وأخرى على البناء المبارك، ويستغرق الإتمام خمس سنين كاملة والسلطان يسأله من حوله لمن هذا المنبر فيجيب: (مستقره في بيت المقدس إن شاء الله).
ويصف العماد الأصفهاني هذا المشهد فيقول: (فكان حاله وهو يأمر بالبناء ويصنعه كحال نوح عليه السلام وهو يصنع الفلك كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه).
رؤية ملأت كيان نور الدين محمود غرسها فيه أبوه من قبل عماد الدين زنكي عبر مراحل جهاده المختلفة من توطيد الوضع في إمارة الموصل، ثم عبر فتح حصن الأثارب ومنه إلى قلعة حارم، ثم كانت أعظم خطواته فتح الرها، واستكمل نور الدين من بعد أبيه المسيرة، وكانت أولى الخطوات بناء المنبر علامة وضوح الرؤية وثباتها ورسوخها في قلب نور الدين رحمه الله.
وانطلق فضم دمشق إلى بلاده ثم أعقبها بمصر وبدأ في التجهيز للضربة القاصمة للصليبيين.
ولكن المنية عجلت به فانطلق صلاح الدين رحمه الله وقد انحفرت رؤية نور الدين متمثلة في المنبر يكمل رسم معالمها، فأعاد توحيد بلاد الشام ومصر بعد وفاة نور الدين رحمه الله وبدأ بإطلاق الحملات المركزة على المدن القريبة من بيت المقدس تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم ضرب ضربته القاصمة وقد تهيأت الأمة وملأتها معالم الرؤية وترسخت فيها عبر السنوات ويفتح الله على يديه بيت المقدس بعد أن يكسر الصليبيين في معركة حطين.
ويدخل صلاح الدين رحمه الله المسجد الأقصى مع جند المؤمنين، ثم يأمر بالمنبر فيوضع في تلك البقعة المباركة ويعلو التكبير وتسيل العبرات من عين صلاح الدين وجنده فرحًا بنصر الله تعالى وابتهاجًا بتحقق رؤية نور الدين إمامهم، تلك الرؤية التي أحيت أمة بكاملها، ولا يزال المسجد الأقصى الآن ينتظر منبرًا مثل منبر نور الدين، ومؤمنًا صادقًا يضع رؤية واضحة يحيي بها أمة الإسلام.
أنت تمتلك مفتاح الأمل:
لقد خلق الله تعالى الإنسان ولديه القدرة على أن يختار بين الصواب والخطأ وبين الخير والشر، لم يخلقه مجبورًا على فعل معين، إنها الأمانة التي عُرِضَت على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها وحملتها أنت، كما قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا) [الأحزاب: ٧٢]، إنها أمانة التكليف، إنها أمانة حرية الإرادة.
ولئن كان الشرع الحنيف قد نبهنا على خطورة الاختيار منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فإن الغرب لم يدرك هذه الحقيقة في وقت سابق وراح يتحجج بأدلة متهافتة على أن الإنسان مجبور على أفعاله وأنه لا يملك من أمره شيئًا، وقالوا: إن هناك حتميات ثلاث تجبر الإنسان على الأفعال وبالتالي لا يستطيع التحكم في انفعالاته واستجاباته، وهذه الحتميات الثلاث هي:
1- الحتمية الوارثية:
فأما عن الحتمية الوراثية، فقد قطع القرآن الطريق على كل من يتحجج به فقال تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) [الزخرف: ٢٣ – ٢٤].
فلم يكن عامل الوراثة عندهم ذو تأثير، والدليل أن الله بعث إليهم دينًا أهدى من معتقداتهم، ولكنهم كفروا وعاندوا ولم تكن الوراثة إلا حجة واهية.
والدليل على ذلك، أن نوحًا كان نبيًّا، ولو كان الأمر بالوراثة لكان ابنه مؤمنًا، ولكن عاش كافرًا ومات كافرًا، قال تعالى: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) [هود: ٤٢ – ٤٣].
وعلى العكس كان عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول t، صحابي جليل نافح عن الإسلام وبذل في سبيله الغالي والنفيس، بخلاف والده عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، وهو الذي حكى القرآن مقالته: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) [المنافقون: ٨]، فاتفقا في الاسم الذي يجري على ألسنة الناس، والدم الذي يجري في عروقهما، وبالرغم من ذلك لم يكن العامل الوراثي قيدًا يجبر الصحابي عبد الله على أن يكون مثل أبيه في النفاق.
2- الحتمية الجسدية:
وبموجبها فإن الطريقة التي تربينا عليها من قِبل آبائنا في صغرنا هي المسئولة عما نحن فيه الآن، وأصحاب هذه النظرية يعتقدون بأن التجربة التي مررت بها في نشأتك وطفولتك تركت آثارها العميقة على توجهاتك ومكونات شخصيتك.
والحقيقة أن التربية لها أثر هام لا يمكن تجاهله، خاصة تأثير الوالدين والمعلمين، ولكن ليست التربية أيضًا حتمية تجعل الإنسان مجبورًا على الفشل دائمًا، أو مدفوعًا نحو النجاح على طول الخط، وأسوق إليك في هذا الشأن خبر الوليد وأبي حذيفة، ابني عتبة بن ربيعة.
إنهما رجلان ولدا في نفس البيت، لنفس الأب، ورضعا من نفس المعين التربوي، كان أبوهما عتبة بن ربيعة كافرًا، ومات على كفره يوم بدر، وفي نفس المعركة، كان أحدهما وهو أبو حذيفة في معسكر الإيمان، بينما أخوه الآخر الوليد في معسكر الكفر.
فهل حالت التربية أن تجعل أبا حذيفة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه رأس من رؤوس الكفر في قومه، ومحارب شرس للإسلام والمسلمين؟! بل هل وقفت تلك التربية عائقًا أمام مفارقة أبي حذيفة الدنيا شهيدًا في سبيل الله مضحيًّا بنفسه في سبيل الإسلام يوم اليمامة؟!
3- الحتمية البيئية:
وربما تريد الآن أن تصيح في وجوهنا: ما هذا الذي تقولونه؟ كأنكم تعيشون في كوكب آخر غير كوكب الأرض، ألا ترون تلك الظروف القاسية التي نعيش في ظلها؟ إنها ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وتجعل الفشل الذريع نتيجة حتمية، سواءً على مستوى الدين أو الدنيا.
ألا ترون معدلات البطالة في عالمنا العربي والإسلامي؟ ألا تسترعي انتباهكم جيوش العاطلين من خريجي الجامعات؟ ألا ترون معي أن الشاب منا قد أصبح لا يستطيع أن يحصل على عمل إلا من خلال الوساطة والرشوة والمحسوبية؟ ألا تشاهدون التخلف الذي يُخيِّم على بلادنا في جميع المجالات؛ من سياسة واقتصاد وإعلام وغير ذلك؟ ألا تشعرون بتلك المهانة التي تعاني منها أمتنا بعد أن تسلط عليها أعداؤها في فلسطين والعراق، بل وفي كل بلاد الإسلام؟
وقبل ذلك كله، ألا ترون هذا الانحراف السلوكي والفساد الأخلاقي الكبير الذي استشرى في مجتمعاتنا وشبابنا ووسائل إعلامنا، مما يتعذر معه على شاب مثلي ألا يقع فريسة لهذا الفساد، فكيف لا يشعر المرء بمرارة الفشل، وهو يعيش تلك الظروف الصعبة؟ وكيف لا يتجرع مرارة العجز، وهو يرى نفسه ـ بل ومعظم المسلمين ـ لا يزالون يعيشون على هامش الحياة، غير قادرين على الالتزام بدينهم، أو النجاح في دنياهم؟ وما من سبيل يلوح في الأفق للخروج من هذا النفق المظلم، أفبعد هذا كله تقولون لي إنني قادر على تحقيق النجاح؟!
نقول لك أيها الحبيب: بل لعلنا نعلم عن واقعنا المر أكثر مما تعلم بكثير، نعلم مثلًا أن متوسط نسبة البطالة في العالم العربي يعادل ضعف نسبتها في العالم كله، وأن عدد العاطلين في البلاد العربية سيصل عام 2010م إلى 25 مليون عاطل، حتى وصف الوضع الحالي للبطالة في الدول العربية "بالأسوأ بين جميع مناطق العالم دون منازع".
ونعلم أيضًا أن متوسط دخل الفرد في الدول العربية والإسلامية يمثل أدنى معدلات الدخل في العالم؛ ففي الصومال مثلًا دخل الفرد السنوي يمثل 190$، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يقدر متوسط دخل الفرد السنوي بـ 13000$.
وناهيك عن التخلف التقني والتكنولوجي، الذي يجعل دولة مثل "إسرائيل" المزعومة، تسجل أعدادًا من براءات الاختراع أضعاف ما تسجله الدول العربية والإسلامية مجتمعة.
أما التخلف الثقافي والعلمي فحَدِّث عنه ولا حرج؛ فعلى سبيل المثال في عام 1995م بلغ عدد الكتب والإصدارات المؤلفة والمترجمة في الوطن العربي كله 1348 كتابًا، بينما في "إسرائيل" المزعومة فقط في نفس السنة 3284 كتابًا.
وفوق ذلك كله ازدياد معدلات الفساد الأخلاقي والانحراف السلوكي، وضعف التدين، وانشغال الشباب بالتفاهات وسفاسف الأمور، وتسلط أعداء الإسلام على مقدرات أمتنا في جميع المجالات، سواء منها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية.
وختامًا:
إن الإسلام ليأبى هذه الفرضيات، التي تحقر من شأن الإنسان وتضعه موضع الحيوان الذي لا يستطيع التحكم في تصرفاته وردود أفعاله، فيأتي القرآن واضحًا في دحض هذه الشبهات، ويقر مبدأ أن الإنسان له القدرة على الاختيار بين الخير والشر، والصالح والفاسد، وله الإرادة في سلوك أي الطريقين طريق الخير وطريق الشر؛ ونتيجة لهذه الاختيارات سيكون حسابه يوم القيامة.
فقد منح الله U لكل إنسان الوعي الكامل والقدرة على الاستجابة للتذكير، فقال تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا) [المزمل: ١٩]، ثم منح الإنسان حق الانتفاع بالذكرى فيستقيم على كل حق وعدل، فقال: (لمن شاء منكم أن يستقيم) [التكوير: ٢٨].
وكونك مسلم فأنت تعلم أنك ستقف يوم القيامة أمام الله وحدك، وستسأل عن اختيارك أنت، ولا يسأل أحد سواك، ولن يتحمل أحد مسئولية قراراتك، بل أنت وحدك الذي تتحمله قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: ١٦٤]، إنها فردية التكليف التي جاء بها الإسلام؛ ليعلن للبشرية جميعًا أنه لا سبيل للنجاة في الآخرة إلا بالإيجابية، والقدرة على الاختيار الصحيح للأفعال.
أهم المراجع:
1. قوة المبادرة، محمد أحمد العطار.
2. تقرير مجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، عام 2004م.
3. تقرير منظمة العمل العربية، عام 2005م.
4. تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، عام 2003م.
ها هو أمل ينهض بأمة كاملة، يستدعى السلطان نور الدين محمود رحمه الله تعالى أمهر النجارين في السلطنة ثم يأمرهم بتصميم وبناء أفخم وأعظم منبر بني تشهد الخلائق بعظمته، وانطلق النجارون في البناء أيامًا تجر أيامًا، وشهورًا خلف أخرى، والسلطان يشرف بنفسه كلما أمكنته الراحة ما بين معركة وأخرى على البناء المبارك، ويستغرق الإتمام خمس سنين كاملة والسلطان يسأله من حوله لمن هذا المنبر فيجيب: (مستقره في بيت المقدس إن شاء الله).
ويصف العماد الأصفهاني هذا المشهد فيقول: (فكان حاله وهو يأمر بالبناء ويصنعه كحال نوح عليه السلام وهو يصنع الفلك كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه).
رؤية ملأت كيان نور الدين محمود غرسها فيه أبوه من قبل عماد الدين زنكي عبر مراحل جهاده المختلفة من توطيد الوضع في إمارة الموصل، ثم عبر فتح حصن الأثارب ومنه إلى قلعة حارم، ثم كانت أعظم خطواته فتح الرها، واستكمل نور الدين من بعد أبيه المسيرة، وكانت أولى الخطوات بناء المنبر علامة وضوح الرؤية وثباتها ورسوخها في قلب نور الدين رحمه الله.
وانطلق فضم دمشق إلى بلاده ثم أعقبها بمصر وبدأ في التجهيز للضربة القاصمة للصليبيين.
ولكن المنية عجلت به فانطلق صلاح الدين رحمه الله وقد انحفرت رؤية نور الدين متمثلة في المنبر يكمل رسم معالمها، فأعاد توحيد بلاد الشام ومصر بعد وفاة نور الدين رحمه الله وبدأ بإطلاق الحملات المركزة على المدن القريبة من بيت المقدس تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم ضرب ضربته القاصمة وقد تهيأت الأمة وملأتها معالم الرؤية وترسخت فيها عبر السنوات ويفتح الله على يديه بيت المقدس بعد أن يكسر الصليبيين في معركة حطين.
ويدخل صلاح الدين رحمه الله المسجد الأقصى مع جند المؤمنين، ثم يأمر بالمنبر فيوضع في تلك البقعة المباركة ويعلو التكبير وتسيل العبرات من عين صلاح الدين وجنده فرحًا بنصر الله تعالى وابتهاجًا بتحقق رؤية نور الدين إمامهم، تلك الرؤية التي أحيت أمة بكاملها، ولا يزال المسجد الأقصى الآن ينتظر منبرًا مثل منبر نور الدين، ومؤمنًا صادقًا يضع رؤية واضحة يحيي بها أمة الإسلام.
أنت تمتلك مفتاح الأمل:
لقد خلق الله تعالى الإنسان ولديه القدرة على أن يختار بين الصواب والخطأ وبين الخير والشر، لم يخلقه مجبورًا على فعل معين، إنها الأمانة التي عُرِضَت على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها وحملتها أنت، كما قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا) [الأحزاب: ٧٢]، إنها أمانة التكليف، إنها أمانة حرية الإرادة.
ولئن كان الشرع الحنيف قد نبهنا على خطورة الاختيار منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فإن الغرب لم يدرك هذه الحقيقة في وقت سابق وراح يتحجج بأدلة متهافتة على أن الإنسان مجبور على أفعاله وأنه لا يملك من أمره شيئًا، وقالوا: إن هناك حتميات ثلاث تجبر الإنسان على الأفعال وبالتالي لا يستطيع التحكم في انفعالاته واستجاباته، وهذه الحتميات الثلاث هي:
1- الحتمية الوارثية:
فأما عن الحتمية الوراثية، فقد قطع القرآن الطريق على كل من يتحجج به فقال تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) [الزخرف: ٢٣ – ٢٤].
فلم يكن عامل الوراثة عندهم ذو تأثير، والدليل أن الله بعث إليهم دينًا أهدى من معتقداتهم، ولكنهم كفروا وعاندوا ولم تكن الوراثة إلا حجة واهية.
والدليل على ذلك، أن نوحًا كان نبيًّا، ولو كان الأمر بالوراثة لكان ابنه مؤمنًا، ولكن عاش كافرًا ومات كافرًا، قال تعالى: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) [هود: ٤٢ – ٤٣].
وعلى العكس كان عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول t، صحابي جليل نافح عن الإسلام وبذل في سبيله الغالي والنفيس، بخلاف والده عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، وهو الذي حكى القرآن مقالته: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) [المنافقون: ٨]، فاتفقا في الاسم الذي يجري على ألسنة الناس، والدم الذي يجري في عروقهما، وبالرغم من ذلك لم يكن العامل الوراثي قيدًا يجبر الصحابي عبد الله على أن يكون مثل أبيه في النفاق.
2- الحتمية الجسدية:
وبموجبها فإن الطريقة التي تربينا عليها من قِبل آبائنا في صغرنا هي المسئولة عما نحن فيه الآن، وأصحاب هذه النظرية يعتقدون بأن التجربة التي مررت بها في نشأتك وطفولتك تركت آثارها العميقة على توجهاتك ومكونات شخصيتك.
والحقيقة أن التربية لها أثر هام لا يمكن تجاهله، خاصة تأثير الوالدين والمعلمين، ولكن ليست التربية أيضًا حتمية تجعل الإنسان مجبورًا على الفشل دائمًا، أو مدفوعًا نحو النجاح على طول الخط، وأسوق إليك في هذا الشأن خبر الوليد وأبي حذيفة، ابني عتبة بن ربيعة.
إنهما رجلان ولدا في نفس البيت، لنفس الأب، ورضعا من نفس المعين التربوي، كان أبوهما عتبة بن ربيعة كافرًا، ومات على كفره يوم بدر، وفي نفس المعركة، كان أحدهما وهو أبو حذيفة في معسكر الإيمان، بينما أخوه الآخر الوليد في معسكر الكفر.
فهل حالت التربية أن تجعل أبا حذيفة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه رأس من رؤوس الكفر في قومه، ومحارب شرس للإسلام والمسلمين؟! بل هل وقفت تلك التربية عائقًا أمام مفارقة أبي حذيفة الدنيا شهيدًا في سبيل الله مضحيًّا بنفسه في سبيل الإسلام يوم اليمامة؟!
3- الحتمية البيئية:
وربما تريد الآن أن تصيح في وجوهنا: ما هذا الذي تقولونه؟ كأنكم تعيشون في كوكب آخر غير كوكب الأرض، ألا ترون تلك الظروف القاسية التي نعيش في ظلها؟ إنها ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وتجعل الفشل الذريع نتيجة حتمية، سواءً على مستوى الدين أو الدنيا.
ألا ترون معدلات البطالة في عالمنا العربي والإسلامي؟ ألا تسترعي انتباهكم جيوش العاطلين من خريجي الجامعات؟ ألا ترون معي أن الشاب منا قد أصبح لا يستطيع أن يحصل على عمل إلا من خلال الوساطة والرشوة والمحسوبية؟ ألا تشاهدون التخلف الذي يُخيِّم على بلادنا في جميع المجالات؛ من سياسة واقتصاد وإعلام وغير ذلك؟ ألا تشعرون بتلك المهانة التي تعاني منها أمتنا بعد أن تسلط عليها أعداؤها في فلسطين والعراق، بل وفي كل بلاد الإسلام؟
وقبل ذلك كله، ألا ترون هذا الانحراف السلوكي والفساد الأخلاقي الكبير الذي استشرى في مجتمعاتنا وشبابنا ووسائل إعلامنا، مما يتعذر معه على شاب مثلي ألا يقع فريسة لهذا الفساد، فكيف لا يشعر المرء بمرارة الفشل، وهو يعيش تلك الظروف الصعبة؟ وكيف لا يتجرع مرارة العجز، وهو يرى نفسه ـ بل ومعظم المسلمين ـ لا يزالون يعيشون على هامش الحياة، غير قادرين على الالتزام بدينهم، أو النجاح في دنياهم؟ وما من سبيل يلوح في الأفق للخروج من هذا النفق المظلم، أفبعد هذا كله تقولون لي إنني قادر على تحقيق النجاح؟!
نقول لك أيها الحبيب: بل لعلنا نعلم عن واقعنا المر أكثر مما تعلم بكثير، نعلم مثلًا أن متوسط نسبة البطالة في العالم العربي يعادل ضعف نسبتها في العالم كله، وأن عدد العاطلين في البلاد العربية سيصل عام 2010م إلى 25 مليون عاطل، حتى وصف الوضع الحالي للبطالة في الدول العربية "بالأسوأ بين جميع مناطق العالم دون منازع".
ونعلم أيضًا أن متوسط دخل الفرد في الدول العربية والإسلامية يمثل أدنى معدلات الدخل في العالم؛ ففي الصومال مثلًا دخل الفرد السنوي يمثل 190$، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يقدر متوسط دخل الفرد السنوي بـ 13000$.
وناهيك عن التخلف التقني والتكنولوجي، الذي يجعل دولة مثل "إسرائيل" المزعومة، تسجل أعدادًا من براءات الاختراع أضعاف ما تسجله الدول العربية والإسلامية مجتمعة.
أما التخلف الثقافي والعلمي فحَدِّث عنه ولا حرج؛ فعلى سبيل المثال في عام 1995م بلغ عدد الكتب والإصدارات المؤلفة والمترجمة في الوطن العربي كله 1348 كتابًا، بينما في "إسرائيل" المزعومة فقط في نفس السنة 3284 كتابًا.
وفوق ذلك كله ازدياد معدلات الفساد الأخلاقي والانحراف السلوكي، وضعف التدين، وانشغال الشباب بالتفاهات وسفاسف الأمور، وتسلط أعداء الإسلام على مقدرات أمتنا في جميع المجالات، سواء منها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية.
وختامًا:
إن الإسلام ليأبى هذه الفرضيات، التي تحقر من شأن الإنسان وتضعه موضع الحيوان الذي لا يستطيع التحكم في تصرفاته وردود أفعاله، فيأتي القرآن واضحًا في دحض هذه الشبهات، ويقر مبدأ أن الإنسان له القدرة على الاختيار بين الخير والشر، والصالح والفاسد، وله الإرادة في سلوك أي الطريقين طريق الخير وطريق الشر؛ ونتيجة لهذه الاختيارات سيكون حسابه يوم القيامة.
فقد منح الله U لكل إنسان الوعي الكامل والقدرة على الاستجابة للتذكير، فقال تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا) [المزمل: ١٩]، ثم منح الإنسان حق الانتفاع بالذكرى فيستقيم على كل حق وعدل، فقال: (لمن شاء منكم أن يستقيم) [التكوير: ٢٨].
وكونك مسلم فأنت تعلم أنك ستقف يوم القيامة أمام الله وحدك، وستسأل عن اختيارك أنت، ولا يسأل أحد سواك، ولن يتحمل أحد مسئولية قراراتك، بل أنت وحدك الذي تتحمله قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: ١٦٤]، إنها فردية التكليف التي جاء بها الإسلام؛ ليعلن للبشرية جميعًا أنه لا سبيل للنجاة في الآخرة إلا بالإيجابية، والقدرة على الاختيار الصحيح للأفعال.
أهم المراجع:
1. قوة المبادرة، محمد أحمد العطار.
2. تقرير مجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، عام 2004م.
3. تقرير منظمة العمل العربية، عام 2005م.
4. تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، عام 2003م.
الثلاثاء أغسطس 27, 2013 10:10 am من طرف سوس
» طريقه وضع توقيع فلاش
الجمعة يوليو 05, 2013 11:57 am من طرف fidou
» صيام ثلاثة أيام= صيام السنة كلها
الجمعة يوليو 05, 2013 10:56 am من طرف fidou
» ولا ذبابة.. !
الجمعة يوليو 05, 2013 10:52 am من طرف fidou
» يستحق الحب .. إنه نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
الجمعة يوليو 05, 2013 10:51 am من طرف fidou
» محفظ ٌ قرآن معتمد أونلاين
الجمعة يوليو 05, 2013 10:47 am من طرف fidou
» فضائل شهر رمضان
الجمعة يوليو 05, 2013 10:26 am من طرف fidou
» هل تريد النصر؟
الإثنين سبتمبر 10, 2012 8:40 pm من طرف أم محمود
» إجازة معتمده فى القراءات العشر عبر النت
الجمعة يونيو 29, 2012 12:03 am من طرف إجازه معتمده اونلاين
» اسرع إجازة عبر الإنترنت فى شهر متصلة السند بالرسول
الخميس يونيو 28, 2012 11:40 pm من طرف إجازه معتمده اونلاين
» منتديات دروبي عالمي الأسلأمي الدعوية اريد ان ادعوكم للمنتدايhttp://rfiaaildilrarb.7olm.org/
الإثنين يونيو 25, 2012 3:29 am من طرف ناصر السنة
» .~* وَسَقَطَت وَرِقه مَن شَجَرَة الْعُمُر *~.
الثلاثاء يونيو 19, 2012 10:09 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» !الأب مشغول..والأم فى الأسواق!
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:53 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ...حب دينك سبب ثباتك عليه...
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:28 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» حاسـوبي الأفضـل بين الحواسيب
الثلاثاء يونيو 19, 2012 9:03 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» ! رساله الى أصحاب الوجوه العابسه !
الثلاثاء يونيو 19, 2012 8:52 pm من طرف •°حہيآئيٌ آآيہُمانيً°•
» صيام الأيام البيض لشهر رجب 1433
الجمعة يونيو 01, 2012 3:16 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر جمادى الاخرة 1433
الخميس مايو 03, 2012 3:49 am من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لهذا الشهر ربيع الثاني 1433
الإثنين مارس 05, 2012 3:20 pm من طرف انور ابو البصل
» صيام الأيام البيض لشهر ربيع الأول 1433
السبت فبراير 04, 2012 2:16 pm من طرف انور ابو البصل
» حلول قساوة القلوب
السبت يناير 28, 2012 1:29 pm من طرف انور ابو البصل
» لمن يريد دعوة شخص أجنبي للإسلام
السبت يناير 28, 2012 1:56 am من طرف الكعبة روحى
» علاج السرحان في الصلاة
السبت يناير 14, 2012 7:08 pm من طرف wegdan
» اسماء وصفات الله عز وجل
الخميس يناير 12, 2012 3:30 pm من طرف ا.عمرو
» اجعل الله همك يكفك ما اهمك
الخميس يناير 12, 2012 1:49 pm من طرف wegdan
» روائع الكلام
الخميس يناير 12, 2012 12:18 am من طرف ا.عمرو
» العبرة بالنهاية
الأربعاء يناير 11, 2012 7:06 pm من طرف ابومحمودعماد محمود
» مخطط جورج سوروس الذي يدافع عنه البرادعي لاختطاف الثورة المصرية
السبت يناير 07, 2012 9:27 am من طرف ا.عمرو